ورق أصفر

ألف ليلة وليلة ٣١: قصة المائدة الخفية

Noha Elebiari Season 2 Episode 41

Send us a text

كتاب صوتي. كتاب مسموع. تواصل شهرزاد حكاية الحلاق الفضولي وإخوته الستة والكوميديا السوداء التي تشكل حياتهم جميعا. وهذه هي حكاية الأخ السادس والأخير، وكيف قاده الجوع إلى حظه السعيد قبل أن تنتشل الأقدار منه السعادة مجددا وتلقي به في طريق من سيء إلى أسوأ.

قصة المائدة الخفية 

الأخ السادس

 

وأما أخي السادسُ يا أميرَ المؤمنين، وهو مقطوعُ الشفتين، فإنه كان فقيرا جدا لا يملِكُ شيئا من حُطامِ الدنيا الفانيةِ، فخرجَ يوما من الأيامِ يطلبُ شيئًا يسُدَ به رَّمَقَه[1]، فبينما هو في بعضِ الطرقِ إذ رأى دارا حسَنةً ولها دِهليزٌ واسعٌ مرتفع، وعلى البابِ خدمٌ وأمرٌ ونهيٌ، فسألَ بعضَ الواقفين هناك فقال:

"هي لإنسانٍ من أولادِ الملوك."

فتقدمَ أخي إلى البوابين وسألَهم شيئًا فقالوا:

"ادخلْ بابَ الدارِ تجدْ ما تحبُ من صاحبِها."

فدخلَ الدهليزَ ومشَى فيه ساعةً، حتى وصلَ إلى دارٍ في غايةِ ما يكونُ من المَلاحةِ والظرف، وفي وسَطِها بستانٌ ما رأى الراؤون[2] أحسنَ منه، وأرضُها مفروشةٌ بالرخام، وستُورُها[3]مُسبَلة[4]، فصار أخي لا يعرفُ أين يقصِد، فمضَى نحوَ صدرِ المكانِ فرأى إنسانا حسَنَ الوجهِ واللحيةِ، فلما رأى أخي قامَ إليه ورحبَ به وسألَه عن حالِه، فأخبرَه أنه محتاجٌ، فلما سمِعَ كلامَ أخي أظهرَ غما شديدا ومدَّ يدَه إلى ثيابِ نفسِه ومزقَها، وقال:

"هل أكونُ أنا ببلدٍ وأنت بها جائع؟! لا صبرَ لي على ذلك."

ووعدَه بكلِ خير. ثم قال:

"لابد أن تمالحِنَي.[5]"

فقال:

"يا سيدي ليس لي صبرٌ، وإني شديدُ الجوع."

فصاح:

"يا غلام، هاتِ الطَّشْتَ والإبريق!"

ثم قالَ له:

"يا ضيفي تقدمْ واغسلْ يدَك."

ثم أومأَ كأنه يغسلُ يدَه. ثم صاحَ على أتباعِه أن قدمِّوا المائدة، فجعلت أتباعُه تغدوا وتروحْ كأنها تهيءُ السُّفْرَة. ثم أخذَ أخي وجلسَ معه على تلك السفرةِ الموهومة، وصارَ صاحبُ المنزلِ يومئُ ويحركُ شفتيه كأنه يأكلُ، ويقول لأخي:

"كلْ ولا تستحِ فإنك جائعٌ، وأنا أعلمُ ما أنت فيه من شدةِ الجوع."

 فجعلَ أخي يومئُ كأنه يأكلُ، وهو يقولُ لأخي:

"كلْ وانظرْ هذا الخبز، وانظرْ بياضَه."

وأخي لا يُبدي شيئا، ثم إن أخي قالَ في نفسِه:

"إن هذا رجلٌ يحبُ أن يهزأَ بالناس."

فقالَ له:

"يا سيدي، عمري ما رأيتُ أحسنَ من بياضِ هذا الخبزِ ولا ألذَ من طعمِه."

فقال:

"هذا خبزُ جاريةٍ لي، كنتُ اشتريتُها بخَمسِمائةِ دينار."

ثم صاحَ صاحبُ الدار:

"يا غلام. قدم لنا السِّكباج[6] الذي لا يوجدُ مثلُه في طعامِ الملوك."

ثم قالَ لأخي:

"كلْ يا ضيفي، فإنك شديدُ الجوع، ومحتاجٌ إلى الأكل."

فصار أخي يدور حنكَه ويمضع كأنه يأكل. وأقبل الرجلُ يستدعي لونا بعد لونٍ من الطعام، ولا يحضُر شيءٌ إلا ويأمرُ أخي بالأكل، ثم صاح:

"يا غلام، قدِمْ لنا الفراريجَ[7] المحشوةَ بالفستق، فكلْ ما لم تأكلْ مثلَه قط."

فقال:

"يا سيدي، إن هذا الأكلَ لا نظيرَ له في اللذة."

وأقبلَ يومئُ بيدِه إلى فمِ أخي حتى كأنه يَلْقَمُه بيدِه، وكان يعددُ هذه الألوانَ ويصفُها لأخي بهذه الأوصاف وهو جائع، فاشتد جوعُه، وصار بشهوةِ رغيفٍ من شَعير، ثم قال له صاحب الدار:
"هل رأيتَ أطيبَ من أبازيرِ[8] هذه الأطعمة؟"

فقال له أخي:

"لا يا سيِّدي."

فقال:

"أكثِرْ الأكلَ ولا تستحِ، فقد اكتفيتُ من الطعام."

فصاحَ الرجلُ على أتباعِه أن قدِّموا الحلويات، فحركوا أيديهم في الهواء، كأنهم قدموا الحلويات، ثم قالَ صاحب المنزل لأخي:

"كلْ من هذا النوعِ فإنه جيد، وكلْ من هذه القطائفِ بحياتي، وخذْ هذه القطيفةَ قبل أن ينزِلَ منها الجُلَّاب.[9]"

فقالَ له أخي:

"لا عدمتُك يا سيدي."

وأقبل أخي يسألُه عن كثرةِ المسكِ الذي في القطائف. فقال له:

"إن هذه عادتي في بيتي فدائما يضعون لي في كلِ قطيفةٍ مثقالا من المسكِ ونصفَ مثقالٍ من العنبر."

هذا كلُه وأخي يحركُ رأسَه وفمُه يلعبُ بين شِدْقَيه[10] كأنه يتلذذ بأكل الحلويات، ثم صاحَ صاحبُ الدارِ على أتباعِه أن أحضِروا النُقْلَ، فحركوا أيديهم في الهواء كأنهم أحضَروا النُقْلَ، وقالَ لأخي:

"كلْ من هذا اللَّوْزِ ومن هذا الجَّوزِ ومن هذا الزَّبيب."

ونحوُ ذلك وصارَ يعددُ له أنواعَ النُقْلِ ويقولَ له:

"كلْ ولا تستحِ."

فقالَ له أخي:

"يا سيدي، قد اكتفيتُ ولم يبقَ لي قدرةٌ على أكلِ شيء."

فقال:

"يا ضيفي، إن أردتَ أن تأكلَ وتتفرجَ على غرائبِ المأكولات، فاللهِ اللهِ لا تكنْ جائعا."

ثم فكرَ أخي في نفسِه، وفي استهزاءِ ذلك الرجلِ به، وقال:

"واللهِ لأعمَّلَن فيه عملا يتوبُ بسببِه إلى اللهِ عن هذه الفعال."

ثم قالَ الرجلُ لأتباعِه:

"قدموا لنا الشراب!"

فحركوا أيديهم في الهواءِ حتى كأنهم قدموا الشراب، ثم أومأَ صاحبُ المنزلِ كأنه ناولَ أخي قدحا، وقال:

"خذْ هذا القدح، فإنه أعجبك."

فقال له:

"يا سيدي، هذا من إحسانِك."

وأومأَ أخي بيدِه كأنه يشربُه، فقالَ له:

"هل أعجبَك؟"

فقال له:

"يا سيدي، ما رأيتُ ألذَ من هذا الشراب."

فقالَ له:

"اشربْ هنيئًا[11] وصحة."

ثم إن صاحبَ البيتِ أومأَ وشرِبَ، ثم ناولَ أخي قدحًا ثانيًا، فخَيَّلَ[12] أنه شرِبَه وأظهرَ أنه سكرانُ. ثم إن أخي غافلَه ورفعَ يدَه حتى بانَ بياضُ إِبْطِهِ وصفعَه على رقبتِه صفعةً رنَّ لها المكان، ثم ثنَّى[13] عليه بصفعةٍ ثانية، فقالَ له الرجل:

"ما هذا يا أسفلَ العالمين؟"

فقال:

"يا سيدِي، أنا عبدُك الذي أنعمتَ عليه وأدخلتَه منزلَك وأطعمتَه الزادَ وأسقيتَه الخمرَ العتيقَ فسكِرَ وعربَّدَ[14] عليك، ومَقامُك أعلى من أن تؤاخذَه بجهلِة."

فلما سمِعَ صاحبُ المنزلِ كلامَ أخي ضحِكَ عاليًا، ثمَّ قالَ له:

"إن لي زمانًا طويلًًا أسخرُ بالناسِ وأهزأُ بجميعِ أصحابِ المُزاحِ والمُجون، ما رأيتُ منهم من له طاقةٌ على أن أفعلَ به هذه السخرية، ولا من له فِطنةٌ يدخلُ بها في جميعِ أموري غيرَك. والآن عفوَتُ عنك، فكن نديمي على الحقيقة، ولا تفارقْني."

ثم أمرَ بإخراجِ عدةِ من أنواعِ الطعامِ المذكورةِ أولا فأكل هو وأخي حتى اكتفيا، ثم انتقلا إلى مجلسِ الشراب، فإذا فيه جوارٍ كأنهن الأقمارُ، فغنين بجميعِ الألحانِ واشتغلن بجميعِ الملاهي، ثم شرِبا حتى غلبَ عليهما السكر، وأنِسَ الرجلُ بأخي، حتى كأنه أخوه، وأحبه محبةً عظيمةً وخلعَ عليه خِلْعةً سَنِية[15].

فلما أصبحَ الصباحُ عادا لما كانا عليه من الأكلِ والشرب. ولم يزالا كذلك مدةَ عِشرين سنةً. ثم إن الرجلَ ماتَ وقبَضَ السلطانُ على مالِه واحتوى عليه، فخرج أخي من البلدِ هاربًا، فلما وصلَ إلى نصفِ الطريق خرجَ عليه العربُ فأسرُوه، وصارَ الذي أسرَه يعذبُه ويقولُ له:

"لله اشترِ روحَك مني بالأموالِ وإلا أقتلْك."

فجعلَ أخي يبكي ويقول:

"أنا واللهِ لا أملِكُ شيئٍا يا شيخَ العرب، ولا أعرِفُ طريقَ شيءٍ من المال، وأنا أسيرُك، وصرتُ في يدِك، فافعلْ بي ما شئتَ."

فأخرجَ البدويُ الجبارُ من حزامِه سكينًا[16] عريضةً لو نزَلَت على رقبةِ جملٍ لقطعتها من الوريدِ إلى الوريد، وأخذَها في يدِه اليمين، وتقدمَ إلى أخي المسكينِ وقطعَ بها شفتيه وشددَ عليه في المطالبة. وكان للبدويِ زوجةٌ حسَنةٌ وكان إذا خرجَ البدويُ تتعرضُ لأخي وتراودُه عن نفسِه، وهو يمتنعُ حياءً من اللهِ تعالى، فاتفقَ أن راودت أخي يومًا من الأيام، فقامَ ولاعبَها وأجلسَها في حِجْرِه فبينما هما كذلك، وإذا بزوجِها داخلٌ عليهما، فلما نظرَ إلى أخي قالَ له:

"يا ويلَك يا خبيث! أتريدُ الآن أن تفسدَ عليّ زوجتى؟!"

وأخرجَ سكينًا وقطعَ بها ذكَرَه وحملَه على جملٍ وطرحَه فوقَ جبلٍ وتركَه وصارَ إلى حالِ سبيله، فجازَ[17] عليه المسافرون فعرَفُوه وسقَوه وأعلموني بخبرِه، فذهبتُ إليه ودخلتُ به المدينةَ ورتبتُ له ما يكفيه. وها أنا جئتُ عندَك يا أميرَ المؤمنين، وخفتُ أن أرجِعَ إلى بيتي قبلَ إخبارِك فيكونُ ذلك غلَطًا وورائي ستةُ إخوة، وأنا أقومُ بهم..."

فلما سمِعَ أميرُ المؤمنين قصتي وما أخبرتُه به عن إخوتي ضحِكَ وقال:

"صدَقتَ يا صامت. أنتَ قليلُ الكلام ما عندَك فضول. ولكن الآن اخرجْ من هذه المدينةِ واسكنْ غيرَها."

ثم نفاني من بغداد فلم أزل سائرا في البلاد حتى طفتُ الأقاليم، إلى أن سمِعتُ بموتِه وخلافةِ غيرِه، فرجَعتُ إلى المدينةِ فوجدتُه مات، ووقعتُ عندَ هذا الشابِ وفعلتُ معه أحسنَ الفعل، ولولا أنا لقتل، وقد اتهمني بشيءٍ ما هو فيّ، وجميعُ ما نقلَه عني من الفضولِ وكثرةِ الكلامِ وكثافةِ الطبع وعدمِ الذوق باطلٌ يا جماعة."

ثم قالَ الخياطُ لملكِ الصين:

"فلما سمِعنا قصةَ المزين، وتحققنا فضولَه وكثرةَ كلامِه، وأن الشابَ مظلومٌ معه، أخذنا المزينَ وقبَضنا عليه، وحبسناه، وجلسنا حولَه آمنين، ثم أكلنا وتمت الوليمةُ على أحسنِ حالةٍ، ولم نزل جالسين إلى أن أذَّنَ العصر، فخرجتُ وجئتُ منزلي وغشِيتُ[18] زوجتي، فقالت:

"أنت طولَ النهارِ في حظِك وأنا قاعدةٌ في البيتِ حزينة، فإن لم تخرجْ بي وتفرجْني بقيةَ النهار كان ذلك سببُ فراقي منك."

 فأخذتُها وخرجتُ بها وتفرجنا إلى العِشاء[19] ثم رجَعنا فلقِينا هذا الأحدبَ والسكر ُطافحٌ منه وهو ينشدُ هذين البيتين[20]:

رقَ[21] الـزجاجُ وراقت الخــمر ُ    وتـشـابـها[22] وتشاكلَ الأمـــــرُ

فــكــأنــمــــا خــــمــــرٌ ولا قــــدحٌ    وكــــــأنـمــــا قــــدحٌ ولا خــمــــــرُ

 

فعَزَمتُ عليه فأجابَني، وخرجتُ لأشتري سمكًا مقليًا، فاشتريتُ ورجَعتُ، ثم جلسنا نأكل. فأخذت زوجتي لقمةً وقطعةَ سمكٍ وأدخلتهما فمَه وسدته فمات، فحمَلتُه وتحايلتُ حتى رميتُه في بيتِ هذا الطبيب، وتحايلَ الطبيبُ حتى رماه في بيتِ المباشر، وتحايلَ المباشرُ حتى رماه في طريقِ السِّمسار، وهذه قصةُ ما لقِيتُه البارحة. أما هي أعجبُ من قصةِ الأحدب؟"

فلما سمِعَ ملكُ الصينِ هذه القصةَ أمرَ بعضَ حُجَّابِه أن يمضُوا مع الخياطِ ويُحضِروا المُزيِّنَ، وقالَ لهم:

"لابد من حضورِه لأسمعَ كلامَه، ويكونُ ذلك سببًا في خلاصِهم جميعا، ونَدفِنُ الأحدبَ ونواريه في التراب، فإنه ميتٌ من أمس، ثم نعمَلُ له ضريحًا لأنه كان سببًا في إطلاعِنا على هذه الأخبارِ العجيبة."

فلما كان إلا ساعةٌ حتى جاءت الحجابُ هم والخياط بعدَ أن مضَوا إلى الحبسِ وأخرجوا منه المُزَيِّنَ وساروا به إلى أن أوقفوه بين يدَي هذا الملك، فلما رآه تأملُه، فإذا هو شيخٌ كبيرٌ جاوزَ التسعينَ أسودُ الوجهِ أبيضُ اللحيةِ والحواجبِ مقرطمُ الأذنين طويلُ الأنف، في نفسِه كبر، فضحِكَ الملكُ من رؤيتِه وقال:

"يا صامت، أريدُ أن تحكي لي شيئًا من حكاياتِك."

فقال المزين:

"يا ملكَ الزمانِ، ما شأنُ هذا النصرانيِ وهذا اليهوديِ وهذا المسلمِ وهذا الأحدبُ بينكم ميت؟ وما سببُ هذا الجمع؟"

فقالَ له ملكُ الصين:

"وما سؤالُك عن هؤلاء؟"

فقال:

"سؤالي عنهم حتى يعلمَ الملكُ أني غيرُ فضوليِ ولا أشتغلُ بما لا يعنيني وإنني بريءٌ مما اتهموني به من كثرةِ الكلام، وإنّ لي نصيبًا من اسمي حتى لقبوني بالصامت كما قال الشاعر[23]:

 وكلما[24] أبصَرَت عيناك ذا لقبٍ    إلا ومعناه إن فتشتَ في لقبِه 

فقال الملكُ:

اشرحوا للمُزَيِّنِ حالَ هذا الأحدب، وما جرى له في وقتِ العِشاء، واشرحوا له ما حكى النصرانيُ، وما حكى اليهوديُ، وما حكى المباشرُ، وما حكى الخياط."

فحكَوا له حكاياتِ الجميعِ وليس في الإعادةِ إفادةٌ، فحرَّكَ المُزَيِّنُ رأسَه وقال:

"واللهِ إن هذا الشيءُ عُجابٌ، اِكشفوا لي عن هذا الأحدب."

فكشفوا له عنه، فجلسَ عِندَ رأسِه وأخذَ رأسَه على حِجْرِه ونظرَ في وجهِه وضحِكَ ضَحِكًا عاليًا حتى انقلبَ على قفاهُ من شدةِ الضَّحِكِ، وقال:

"لكل موتةٍ سببٌ من الأسباب، وموتةٌ هذا الأحدبِ من عجبِ العُجاب، يجبُ أن تؤرخَ في السجلاتِ ليعتبرَ بما مضَى من هو آت."

فتعجبَ الملكُ من كلامِه وقال:

"يا صامت. احكِ لنا سببَ كلامِك هذا."

فقال:

 "يا ملك. وحقِ نعمتِك إن الأحدبَ فيه الروح."

ثم إن المزينَ أخرجَ من وسَطِه مكحلةً فيها دُّهنٌ. ودَهَنَ رقبةَ الأحدبِ، وغطاها حتى 

عَرِقت، ثم أخرجَ كَلْبتين[25] من حديد ونزَل بهما في حَلقِه فالتقطت القطعةَ السمكَ بعظمِها، فلما أخرجَها رآها الناسُ بعيونِهم، ثم نهضَ الأحدبُ واقفًا على قدميه وعطَسَ عَطْسةً واستفاقَ في نفسِه، وملَّسَ[26] بيديه على وجهِه وقالَ:

"لا إله إلا الله محمدٌ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم."

فتعجب الحاضرون من الذي رأَوه وعاينوه فضحِكَ ملكُ الصين حتى غُشِيَ عليه وكذلك الحاضرون، وقالَ السلطان:

"واللهِ، إن هذه القصةَ عجيبةٌ ما رأيتُ أغربَ منها."

ثم إن السلطانَ قال:

"يا مسلمين. يا جماعةَ العسكر. هل رأيتم في عمرِكم أحدًا يموتُ ثم يحيا بعدَ ذلك؟ ولولا رزقَه اللهُ بهذا المزَّينِ لكان اليومَ من أهلِ الآخرة، فإنه كان سببًا لحياتِه."

فقالوا:

"واللهِ، إن هذا من عجبِ العُجاب."

ثم إن ملكَ الصينِ أمرَ أن تُسطَرَ هذه القصةَ فسطرُوها، ثم جعلُوها في خِزانةِ الملك، ثم خَلَعَ على اليهودي والنصراني والمباشر، وخَلَعَ على كلِ واحدٍ خِلعةً سنية، وجعلَ الخياطَ خياطَه ورتبَ له الرواتبَ وأصلحَ بينه وبين الأحدب، وخَلَعَ على الأحدبِ خِلعةً سنيةً مليحةً ورتبَ له الرواتبَ وجعلَه نديمَه، وأنعمَ على المزيِّنِ وخلعَ عليه خِلعةً سنيةً ورتبَ له الرواتبَ وجعلَ له جامكيةً وجعلَه مزَّينَ المملكةِ ونديمَه، ولم يزالوا في ألذِ عيشٍ وأهناه إلى أن أتاهم هادمُ[27] اللذاتِ ومفرقُ الجماعات، وليس هذا بأعجبِ من قصةِ الوزيرين التي فيها ذكرُ أنيسِ الجليس. قالَ الملك:

وما حكايةُ الوزيرين؟"




[1] رمق: بقية الحياة وآخر النفس.
[2] كتبت في الأصل "الراؤن".
[3] ستور: جمع سِتر وهو الستار.
[4] كتبت في الأصل "مسبولة". وأعتقد أن الأصح هي مُسبَلَة" وهي اسم المفعول من المفعل "أسبل" أي أرخى على الأرض.
ونقول "طريق مسبول" أي مطروق.
[5] يمالح: أي يأكلا سويا. ووفقا للسان العرب "المُمَالحة لفظة مولَّدة وليست من كلام العرب... ولا يصح أَن يكون بمعنى المواكلة ويكون مأْخوذاً من المِلْح لأَن الطعام لا يخلو من الملح ووجه فساد هذا القول أَن المفاعلة إِنما تكون مأْخوذة من مصدر مثل المُضاربة والمقاتلة ولا تكون مأْخوذة من الأَسماء غير المصادر.
[6] السِّكْباج: بالكسر معرب. وهو طعام يتكون من اللحم والخل المُبهر بالتوابل، وتُسمّى القطعة الواحدة منه بالسكباجة. وهو من أشهر المأكولات العربية القديمة، ووردت عدة وصفات مفصلة لها في كتب الطبخ العربية القديمة.
[7] فراريج: جمع مفرده فَرُّوجة وهي الدُّجاجةِ. وذكره الوسيط مذكرا "فروج" بمعنى فرخ الدجاجة.
[8] أبازير: توابل.
[9] الجُلَّابُ: ماءُ الورد، فارسي معرَّب.
[10] الشِدْق: جانب الفم.
[11] كتبت في الأصل "هنيأ".
[12] خَيَّل: تخيل وصور الشيء في خاليه. وهنا بمعنى مّثَّل.
[13] ثنَّى بالأمر: أي فعله مرة ثانية.
[14] عربد: أساء خُلُقَه في السكر.
[15] سنية: رفيعة.
[16] سكين تذكر وتؤنث.
[17] جاز الطريق: سلكه.
[18] غشِيَ المرأة: جامَعَها.
[19] العِشاء: ما بين المغرب والعَتَمة.
[20] الأبيات منسوبة للصاحب بن عَبَّاد (٩٤٥-٩٩٥). ولد بمدينة إصطخر، في جنوب إيران حاليا، وكان من كبار علماء وأدباء الشيعة الإمامية الإثني عشرية، وهي طائفة في الإسلام. وهو من وضع معجم المحيط في اللغة. حصل على لقب الصاحب عقب توليه الوزارة في الدولة البُوَيْهِيَّة (٩٣٤-١٠٦٢)، إحدى الدويلات الإسلامية التي قامت في ظل الدولة العباسية أواخر العصر العباسي الثاني (٨٤٧ – ١٢٥٨).
[21] في الأصل "راق".
[22] في الأصل "فتشابها".
[23] هو مما أضيف على نسخة المخطوط. والبيت منسوب للشاعر محمد بن إبراهيم ابن السراج المراكشي، المعروف بشاعر الحمراء (١٨٩٧-١٩٥٤). ويبدو من تاريخ ميلاد الشاعر أن البيت أضيف في نسخة لاحقة على نسخة بولاق. وقد ولد وعاش في المغرب وزار مصر عام ١٩٣٥ والتقى بالوسط الثقافي بها. ومن الغريب أن البيت أضيف إلى نسخة الحلبي قبل هذه الزيارة. 
[24] كتبت في الأصل "قلما".
[25] أداة تُخلع بها الأسنان.
[26] ملَّس: تستخدم في العامية المصرية بمعنى مسح. لكني لم أعثر في المعاجم القديمة المتاحة لي بهذا المعنى. ولم يذكرها الوسيط أيضا. والمعنى الأقرب هو ملَّس الشيء أي جعله أملس ضد خَشِن.
[27] في الأصل "هاذم".