ورق أصفر
ورق أصفر
ألف ليلة وليلة ٢٩: قصة الجزار
كتاب صوتي. كتاب مسموع. ألف ليلة وليلة. كوميديا.
تواصل شهرزاد حكايات ألف ليلة وليلة، ويواصل معها مزين بغداد حكاياته عن إخوته. وهذه هي حكاية الأخ الرابع. ومثل جميع قصص المزين، هذه القصة تنتمي للكوميديا السوداء.
يمكن لمستمعي اليوتيوب التمتع بتجربة استماع أكثر ثلاثة والهاتف مغلق. كما يمكنكم تحميل المحتوى مجانا من صفحتنا الرابط:
https://waraqasfar.buzzsprout.com
بالضغط على كلمة
trascript
في المشغل سيظهر لكم نص القصة مزودا بهوامش توضيحية.
قصة الأخ الرابع (الجزار الأعور)
فقلت:
"وأما أخي الرابعُ يا أميرَ المؤمنين، وهو الأعور، فإنه كان جزارا يبيعُ اللحمَ ويربي الخرفان، وكانت الكبار وأصحاب الأموال يقصدونه ويشترون منه اللحم، فاكتسبَ من ذلك مالا عظيما واقتنى الدوابَ والدور، ثم أقامَ على ذلك زمنا طويلا، فبينما هو في دكانِه يوما[1] من الأيام، إذ وقفَ عليه شيخٌ كبيرُ اللحية فدفعَ له دراهمَ، وقال:
"أَعطنِي بها لحما."
فأخذَ منه الدراهمَ وأعطاه اللحمَ وانصرف، فتأملَ أخي في فِضةِ الشيخ، فرأى دراهمَه بيضاءَ بياضاً ساطع، فعزلَها وحدَها في ناحية، وأقامَ الشيخُ يترددُ عليه خمسةَ أشهر، وأخي يطرحُ دراهمَه في صُندوقٍ وحَدها، ثم أراد أن يخرجَها ويشتري غنما، فلما فتحَ الصندوقَ رأى جميعَ ما فيه ورقاً أبيض مقصوصا، فلطمَ وجهَه وصاح، فاجتمعَ الناسُ عليه، فحدثهم بحديثِه فتعجبوا منه ثم رجَعَ أخي إلى الدكانِ على عادتِه فذَبَحَ كبشا وعلقَه داخلَ الدكان، وقطعَ لحما وعلقَه خارجَ الدكان، وصار يقولُ في نفسِه:
"لعل ذلك الشيخَ يجيءُ فأقبِضَ عليه."
فلما كان إلا ساعةٌ وقد أقبلَ الشيخُ ومعه الفِضة، فقامَ أخي وتعلقَ به وصارَ يصيح:
"يا مسلمون[2] الحَقُوني واسمعوا قصتي مع هذا الفاجر."
فلما سمِعَ الشيخُ كلامَه قالَ له:
"أي ُشيءٍ أحبُ إليك؛ أن تعرِضَ عن فضيحتي أو أفضحَك بين الناس؟"
فقالَ له أخي:
"بأي شيءٍ تفضحُني؟"
قال:
"بأنك تبيعُ لحمَ الناسِ في صورةِ لحمِ الغنم."
فقال له أخي:
"كذِبتَ يا ملعون."
فقالَ الشيخ:
"ما ملعونٌ إلا الذي عندَه رجلٌ معلقٌ في الدكان."
فقالَ له أخي:
"إن كان الأمرُ كما ذكرت، فمالي ودمي حلالٌ لك."
فقالَ الشيخ:
"يا معشرَ الناس، إن هذا الجزارَ يذبحُ الآدميين ويبيعُ لحمَهم في صورةِ لحمِ الغنم، وإن أردتم أن تعلَموا صِدقَ قولي فادخلوا دكانَه."
فهجمَ الناسُ على دكانِ أخي فرأَوا ذلك الكبشَ صارَ إنسانا معلقا، فلما رأَوا ذلك تعلقوا بأخي وصاحوا عليه:
"يا كافر، يا فاجر."
وصار أعزُ الناسِ عليه يضرِبه، ولطمَه الشيخُ على عينِه فقلَعها، وحملَ الناسُ ذلك المذبوحَ إلى صاحبِ الشرطة، فقال له الشيخ:
"أيها الأمير، إن هذا الرجلَ يذبحُ الناسَ ويبيعُ لحمَهم على أنه لحمُ غنم، وقد أتيناك به، فقمْ واقضِ حقَ اللِه عز وجل."
فدافع أخي عنه نفسه، فلم يسمع منه صاحبُ الشرطة، بل أمرَ بضربِه خمسَمائةِ عصًا، وأخذوا جميعَ مالِه، ولولا كثرةُ مالِه لقتلوه، ثم نفَوا أخي من المدينةِ، فخرجَ هائما لا يدري أين يتوجه، حتى دخلَ مدينةً كبيرةً، واستحسنَ أن يعمل إسكافيا[3]، ففتحَ دكانا وقعدَ يعمل شيئا يتقوتُ منه، فخرجَ ذاتَ يومٍ في حاجة، فسمِعَ صهيلَ خيل، فبحثَ عن سببِ ذلك فقيل له إن الملكَ خارجَ إلى الصيدِ والقنص، فخرجَ أخي ليتفرجَ على الموكبِ وهو يتعجبُ من خِسَّةِ[4] رأيه حيث انتقلَ من صنعةِ الجزارةِ إلى صنعةِ الإساكفة، فالتفتَ الملكُ فوقعت عينُه على عينِ أخي فأطرقَ الملكُ رأسَه وقال:
"أعوذُ باللهِ من شرِ هذا اليوم."
وثنى عِنانَ[5] فرسِه وانصرفَ راجعا، فرجَع جميعُ العسكر، وأمرَ الملكُ غِلمانَه أن يلحَقوا أخي ويضربوه، فلحِقوه وضربوه ضربا وجيعا حتى كاد أن يموت، ولم يدرِ أخي ما السببُ فرجَع إلى موضعِه وهو في حالةِ العدم، ثم مضى إلى إنسانٍ من حاشيةِ الملك وقص عليه ما وقع له، فضحِك حتى استلقى على قفاه وقالَ له:
"يا أخي، اعلمْ أن الملكَ لا يطيقُ أن ينظرَ إلى أعور، ولاسيما إن كان العورُ شِمالا، فإنه لا يرجِعُ عن قتلِه."
فلما سمِع أخي ذلك الكلام عزمَ على الهروب من تلك المدينة، ثم ارتحلَ منها وتحولَ إلى مدينةٍ أخرى لم يكن فيها ملك، وأقامَ بها زمنا طويلا، ثم بعدَ ذلك تفكر َفي أمرِه وخرجَ يوما ليتفرجَ فسمِعَ صهيلَ خيلٍ خلفَه، فقالَ:
"جاءَ أمرُ اللهِ!"
وفرَ يطلبُ موضعا ليستترَ فيه، فلم يجد، ثم نظرَ فرأى بابا منصوبا فدفعَ ذلك البابَ فوقع، فدخل فرأى دهليزا طويلا فاستمر داخلا فيه، فلم يشعر ْ إلا ورجلانِ قد تعلقا به وقالا له:
"الحمدُ للهِ الذي أمكننا منك يا عدو الله! هذه ثلاثُ ليالٍ ما ارحتَنا ولا تركتَنا ننام ولا يستقرُ لنا مضجع، بل أذقتَنا طعمَ الموت."
فقالَ أخي:
"يا قوم، ما أمرُكم؟"
فقالوا:
"أنت تراقبُنا وتريدُ أن تفضحَنا وتفضحَ صاحبَ البيت. ألا يكفيك أنك أفقرتَه وأفقرتَ أصحابَك؟ ولكن أخرِجْ لنا السكينَ الذي تهددُنا بها كلَ ليلة."
وفتشوه فوجدوا في وسطِه السكينَ التي يقطعُ بها النعال، فقال:
"يا قوم، اتقوا اللهَ في أمري، واعلموا أن حديثي عجيب."
فقالوا:
"ما حديثُك؟"
فحدثَهم بحديثِه طمعا أن يطلقوه، فلم يسمعوا منه ما قاله، ولم يلتفتوا إليه، بل ضربوه ومزقوا أثوابَه، فلما تمزقت أثوابُه وانكشفَ بدنُه وجدوا أثرَ الضربِ بالمقارع على جنبيه، فقالوا له:
"يا ملعون. هذا أثرُ الضربِ يشهدُ على جرمِك."
ثم أحضروا أخي بين يدَي الوالي فقالَ في نفسِه:
"قد وقعتُ بذنوبي، وما يخلِصُني إلا اللهُ تعالى."
فلما حضر بين يدي الوالي، قال له:
"يا فاجر ما حملك على أن ضُرِبتَ بالمقارعِ إلا جرمٌ عظيم."
ثم ضربَ أخي مائةَ سوطٍ، ثم حملوه على جملٍ ونادَوا عليه:
"هذا جزاءُ من يهجُمُ على بيوتِ الناس."
فلما سمِعتُ به أنا خرجتُ إليه، ومازلتُ دائرا معه وهم ينادون عليه حتى تركوه، فأتيتُ إليه وأخذتُه وأدخلتُه المدينةَ سرا، ورتبتُ ما يأكلُ وما يشرب.
[1] كتبت في الأصل "يوم"
[2] أعتقد أن الصحيح مسلمين، لأنها نكرة غير مقصودة، وقد قابلت الإشكالية نفسها في قصة الشحاذ الأعمى.
[3] الأصح: الأُسكُفُّ، لكن "الإسكافي" خطأ شائع.
[4] خِسَّة: وضاعة.
[5] العِنَانُ: سَيْرُ اللَّجام الذي تُمسَكُ به الدابَّة. وهو غير العَنان بالفتح وهو السحاب.