ورق أصفر
ورق أصفر
ألف ليلة وليلة ٢٤: قصة اليهودي
كتاب صوتي. ألف ليلة وليلة. تواصل شهرزاد الحكاية، ويتقدم اليهودي ليحكي قصته في محاولة لتجاوز قصة الأحدب. فيحكي لنا قصة محملة بالحب والجنس بل وجريمة قتل وإدانة مظلوم. فهل ستكون قصته أفضل من قصة الأحدب؟
لمستمعي اليوتيوب: لتحميل المحتوى مجانا أو للاستماع والموبايل مغلق أدعوكم لزيارة البودكاست على موقع أو تطبيق سبوتيفاي، في الرابط:
https://open.spotify.com/episode/2SoD0IelJV0JzCaXZ1n3xD
كما ستجدون المحتوى على كافة منصات البودكاست الأخرى، مثل أبل بودكاستس وغوغل.
أو يمكنكم زيارة صفحتنا على الإنترنت، حيث يمكنكم الإطلاع على النص ملحق بهوامش عن اللغة والثقافة، في الرابط:
https://waraqasfar.buzzsprout.com/1619083/14922292-
ثم إن اليهودي تقدمَ وقبَّل الأرضَ وقال:
"يا ملكَ الزمان، أنا أحدثُك بحديثٍ أعجبَ من حديثِ الأحدب."
فقالَ ملكُ الصين:
"هاتِ ما عِندَك."
فقال:
"أعجب ُما جرى لي في زمنِ شبابي أني كنتُ في دِمشقَ الشام، وتعلمتُ صنعةً فعمِلتُ فيها، فبينما أنا أعمَلُ في صنعتي يوما من الأيام إذ أتاني مملوكٌ من بيتِ الصاحبِ بِدمَشق فخرجتُ له وتوجهتُ معه إلى منزلِ الصاحب، فدخلتُ فرأيتُ في صدرِ الإيوانِ[1] سريرا من المرمرِ بصفائح ِ الذهب. وعليه آدميٌ مريضٌ راقد، وهو شابٌ لم يُرَ أحسنَ منه في زمانِه، فقعدتُ عِندَ رأسِه ودعوتُ له بالشفاء، فأشارَ إليّ بعينِه، فقلتُ له: ياسيدي ناولني يدَك، فأخرجَ يدَه اليسرى، فتعجبتُ من ذلك وقلتُ في نفسي: ياللهِ العجب، إن هذا الشابَ مليحٌ، ومن بيتٍ كبير، وليس عِندَه أدب، إن هذا هو العجب. ثم جسستُ مفاصلَه وكتبتُ له ورقةً ومكثتُ أترددُ عليه مدةَ عشرةِ أيام حتى تعافى ودخلَ الحمامَ واغتسلَ وخرج، فخلعَ علي الصاحبُ خِلْعةً مليحةً وجعلني مباشرا عِندَه في المارَسْتان[2] الذي بدِمَشق، فلما دخلتُ معه الحمام، وقد أخلَوه لنا من جميعِ الناس، ودخلَ الخادمُ بالثيابِ وأخذَ ثيابَه التي كانت عليه من داخلِ الحمام، فبعدَ أن تعرَى رأيتُ بيدِه اليمينِ قَطْعا صعبا، فلما رأيتُه أخذتُ أتعجبُ وحزِنتُ عليه ونظرتُ إلى جسدِه فوجدتُ عليه آثارَ ضربِ مقارع، فصِرتُ أتعجبُ من أجلِ ذلك، فنظرَ إلي الشابُ وقالَ لي:
"يا حكيمَ الزمان، لا تعجبْ من أمري فسوف أحدثُك بحديثي حتى تخرجَ من الحمام."
فلما خرجنا من الحمامِ وصلنا إلى الدارِ وأكلنا الطعام، واسترحنا، قالَ الشاب:
"هل لك أن تتفرجَ في الغرفة؟"
فقلت:
"نعم"
فأمرَ العبيدَ أن يُطَلَّعوا الفرشَ إلى فوق، وأمرَهم أن يشووا خروفان و[3]يأتُوا إلينا بفاكهة، ففعل العبيد ما أمرهم به، وأتوا بالفاكهة فأكلنا، وأكل هو بيدِه الشِّمال، فقلتُ له حدثني بحديثِك، فقالَ لي:
"يا حكيمَ الزمان، اِسْمَعْ حكاية ما جرى لي... اِعلمْ أنني من أولادِ الموصل، وكان لي والدٌ قد تُوُفي أبوه وخلَفَ عشرةَ أولادٍ ذكور من جملتِهم والدي، وكان أكبرَهم،
فكبِروا كلُهم وتزوجوا ورُزِقَ والدي بي، وأما إخوتُه التسعةُ فلم يرزقوا بأولاد، فكبِرتُ أنا وصرتُ بين أعمامي، وهم فرِحون بي فرحا شديدا، فلما كبِرتُ وبلغتُ مبلغَ الرجال، كنتُ ذات يومٍ مع والدي في جامعِ الموصل، وكان اليومُ يومَ جمعة فصلينا الجمعةَ وخرجَ الناسُ جميعا، وأما والدي وأعمامي فإنهم قعَدوا يتحدثون في عجائبِ البلاد وغرائبِ المدن إلى أن ذكروا مصر، فقالَ بعضُ أعمامي إن المسافرين يقولون ما على وجهِ الأرضِ أحسنُ من مصرَ ونيلِها، ولقد أحسنَ من قال فيها وفي نيلِها هذَين البيتين[4]:
باللهِ قلْ للنيلِ عني إنني
لم أَشفِ من ماءِ الفراتِ غليلاً
يا قلبُ كم خلَفتَ ثمَّ بثينةً[5]
وأظن[6] صبرَك أن يكونَ جميلا
ثم إنهم أخذوا يصفون مصرَ ونيلَها، فلما فرَغوا من كلامِهم وسمِعتُ أنا هذه الأوصالَ[7] التي في مصرَ صارَ خاطري مشغولاً بها، ثم انصرفوا وتوجه كلٌ منهم إلى منزلِه، فبِتُ تلك الليلةَ لم يأتني نومٌ من شغفي بها، ولم يطِبْ ليّ أكلٌ ولا شرب، فلما كان بعدَ أيامٍ قلائلَ تجهزَ أعمامي إلى مصر، فبكَيتُ على والدي لأجلِ الذهابِ معهم حتى جهزَ لي متجرا ومضَيتُ معهم وقالَ لهم:
"لا تدَعوه يدخلَ مصرَ بل اتركوه في دِمشقَ ليبيعَ متجرَه فيها."
ثم سافرنا وودعتُ والدي وخرجنا من الموصل، ومازلنا مسافرين حتى وصلنا إلى حلب، فأقمنا بها أياما، ثم سافرنا إلى أن وصلنا دمشق، فرأيناها مدينةً ذاتَ أشجارٍ وأنهارٍ وأثمارٍ وأطيارٍ، كأنها جنةٌ فيها من كلِ فاكهة، فنزَلنا في بعضِ الخانات، واستمرَ بها أعمامي حتى باعوا واشتروا وباعوا بضاعتي فربِحَ الدِرهمُ خمسةَ دراهمَ ففرِحتُ بالربحِ.
ثم تركني أعمامي وتوجهوا إلى مصرَ فمَكَثتُ بعدَهم وسكَنتُ في قاعٍة مليحةِ البُنيان، يُعجَزُ عن وصفِها باللسان أُجرتُها كلَ شهرٍ ديناران، وصرتُ أتلذذُ بالمآكلِ والمشاربِ حتى صرَفتُ المالَ الذي كان معي، فبينما أنا قاعدٌ على بابِ القاعةِ يوما من الأيامِ وإذا بصبيةٍ أقبلت عليّ وهي لابسةٌ أفخرَ الملابس، ما رأت عينِي أفخرَ منها، فعزَمتُ عليها فما قصََّرَت بل صارت داخلَ الباب، فلما دخل ت ظفِرتُ بها وفرحتُ بدخولِها فرددتُ[8] البابَ عليّ وعليها، وكشفَت عن وجهِها وقلعت إزارَها، فوجدتُها بديعةَ الجمال، فتمكنَّ حبُها من قلبي، فقمتُ وجئتُ بسفرةٍ من أطيبِ المأكولِ والفاكهةِ وما يحتاجُ إليه المَقام، وأكلنا ولعِبنا وبعدَ اللعِبِ شرِبنا حتى سكِرنا ثم نمتُ معها في أطيبِ ليلةٍ إلى الصباح، وبعدَ ذلك أعطيتُها عشرةَ دنانيرَ فحلَفت أنها لا تأخذُ الدنانيرَ مني، ثم قالت:
"يا حبيبي، انتظرْني بعدَ ثلاثةِ أيامٍ وقتَ المغرب أكونُ عِندَك، وهيءْ لنا بهذه الدنانيرِ مثلَ هذا."
وأعطتني هي عشرةَ دنانيرَ وودعتني وانصرفت، فأخذَت عقلي معها، فلما مضت الأيامُ الثلاثةُ أتت وعليها من المزركشِ والحَلْيِ والحُللِ أعظمُ مما كان عليها أولا، وكنتُ هيأتُ لها ما يليقُ
بالمَقام قبل أن تحضُرَ، ثم أكلنا وشرِبنا ونمنا مثلَ العادةِ إلى الصباح، ثم أعطتني عشرةَ دنانيرَ و واعدتني بعدَ ثلاثةِ أيامٍ أنها تحَضُرُ عِندي، فهيأتُ لها ما يليقُ بالمَقام، وبعدَ ثلاثةِ أيامٍ حضَرَت في قماشٍ أعظمَ من الأولِ والثاني ثم قالت لي:
"يا سيدي، هل أنا مليحة؟"
فقلت:
"أي واللهِ."
فقالت:
"هل تأذنُ لي أن أجيءَ معي بصبيةٍ أحسنَ مني وأصغرَ سنا مني تلعبُ معنا، ونضحَكُ وإياها، فإنها سألتني أن تخرجَ معي وتبيتَ معنا لنضحَكَ وإياها."
ثم أعطتني عشرين دينارا، وقالت لي:
"زِد لنا المَقامَ[9] لأجلِ الصبيةِ التي تأتي معي."
ثم إنها ودعتني وانصرفت. فلما كان اليومُ الرابعُ جهزتُ لها ما يليقُ بالمَقامِ على العادة، فلما كان بعدُ المغرِب، وإذا بها قد أتت ومعها واحدةٌ ملفوفةُ بإزار، فدخلتا وجلستا ففرِحتُ وأوقدتُ الشموعُ واستقبلتُهما بالفرحِ والسرور، فقامتا ونزعتا ما عليهما من القماش، وكشفت الصبيةُ الجديدةُ عن وجهِها، فرأيتُها كالبدرِ في تمامِه، فلم أرَ أحسنَ منها، فقمتُ وقدمتُ لهما الأكلَ والشربَ، فأكلنا وشرِبنا وصرتُ أُقَبلُ الصبيةَ الجديدةَ وأملأُ لها القدحَ وأشربُ معها، فغارت الصبيةُ الأولى في الباطنِ ثم قالت:
"باللهِ، إن هذه الصبيةَ مليحةٌ، أما هي أظرفُ مني؟"
قلت:
"أي والله."
قالت:
"خاطري أن تنامَ معها."
قلت:
"على رأسي وعيني."
ثم قامت وفرَشت لنا، فقمتُ ونمتُ مع الصبيةِ الجديدةِ إلى وقتِ الصبح، فلما أصبحتُ وجدتُ يدي ملوثةً بدم، ففتحتُ عينَي فوجدتُ الشمسَ قد طلَعت فنبهتُ الصبيةَ، فتدحرجت رأسُها عن بدنِها[10]، فظننتُ أنها فعلت ذلك من غيرتِها منها، ففكرتُ ساعة ثم قمتُ قلعتُ ثيابي وحفرتُ في القاعةِ ووضعتُ الصبيةَ ورددتُ عليها الترابَ وأعدتُ الرخامَ كما كان، ثم لبِستُ وأخذتُ بقيةَ مالي وخرجتُ، وجئتُ إلى صاحبِ القاعةِ ودفعتُ له أجرةَ سنة وقلتُ له:
" أنا مسافرٌ إلى أعمامي بمصر."
ثم سافرتُ إلى مصرَ واجتمعتُ بأعمامي، ففرِحوا بي ووجدتُهم قد فرَغوا من بيعِ متجرِهم ثم قالوا لي:
"ما سببُ مجيئِك؟"
فقلتُ لهم:
"اشتقتُ إليكم، وخفتُ أن لا يبقى معي شيءٌ من مالي."
فأقمتُ عِندَهم سنةً وأنا أتفرجُ على مِصرَ ونيلِها، ووضعتُ يدي في بقيةِ مالي، وصرتُ
أصرِفُ منه وآكلُ وأشربُ حتى قرُبَ سفرُ أعمامي، فهرِبتُ منهم، فقالوا:
"لعله سبَقنا ورجَعَ إلى دمشق."
فسافروا وخرجتُ أنا فأقمتُ بمصرَ ثلاثَ سنين، وصرتُ أصرِفُ حتى لم يبقَ معي من المالِ شيءٌ، وأنا في كلِ سنةٍ أرسلُ إلى صاحبِ القاعةِ أجرتَها، وبعدَ الثلاثِ سنين ضاقَ صدري، ولم يبقَ معي إلا أجرةَ السنةِ فقط، فسافرتُ حتى وصلتُ إلى دمشق، ونزلتُ في القاعة، ففرِحَ بي صاحبُها، فدخلتُ القاعة، ومسحتُها من دمِ الصبيةِ المذبوحة، ورفعتُ المِخَدَّة فوجدتُ تحتَها العِقدَ الذي كان في عنقِ تلك الصبية، فأخذتُه وتأملتُه وبكيتُ ساعة، ثم أقمتُ يومين، وفي اليومِ الثالث دخلتُ الحمامَ وغيرتُ أثوابي وأنا ما معي شيءٌ من الدراهم، فجئتُ يوما إلى السوق، فوَسوسَ ليَّ الشيطانُ لأجلِ إنفاذِ القدر، فأخذتُ العِقدَ الجوهرَ، وتوجهتُ به إلى السوقِ، وناولتُه للدلال، فقامَ لي وأجلسني بجانبِه وصبَرَ حتى عمَرَ السوق، وأخذَه الدلالُ ونادى عليه خِفيةً وأنا لا أعلم، وإذا بالعِقدِ مثمنٌ، و[11]بلغ ثمنه ألفي دينار، فجاءني الدلالُ وقالَ لي:
"إن هذا العِقدَ نُحُّاسٌ مصنوعٌ بصنعةِ الإفرنج، وقد وصلَ ثمنُه إلى ألفِ دِرهم، فقلتُ له:
"نعم. هذا كنا صنعناه لواحدةٍ نضحكُ عليها به، وورثتها زوجتي، فأردنا بيعَه، فرُحْ واِقبضْ الألفَ درهمٍ و... أدركَ شهرزادَ الصباح فسكتت عن الكلامِ المباح.
فلما كانت الليلةُ الثامنةُ والعِشرون
قالت بلغني أيها الملكُ السعيد أن الشابَ لما قالَ للدلالِ اِقبضْ الألفَ دِرهمٍ، وسمِعَ الدلالُ ذلك، عَرَف أن قضيتَه مشكلة، فتوجه بالعِقدِ إلى كبيرِ السوق، وأعطاه إياه فأخذَه وتوجه به إلى الوالي، وقال له:
"إن هذا العقدَ سُرِقَ من عِندي ووجدنا الحرامي لابسا لِباسَ أولادِ التجار."
فلم أشعرُ إلا والظَلَمَةُ قد أحاطوا بي وأخذوني وذهبوا بي إلى الوالي، فسألني الوالي عن ذلك العِقدِ فقلتُ له ما قلتُه للدلال، فضحِك الوالي وقال:
"ما هذا كلامُ الحق."
فلم أدرِ إلا وحواشيه[12] جردوني من ثيابي وضربوني بالمقارعِ على جميعِ بدني، فأحرقني الضرب، فقلت:
" أنا سرقتُه."
وقلتُ في نفسي إن الأحسنَ أني أقولُ أنا سرقتُه ولا أقولُ إن صاحبتَه مقتولةٌ عنِدني
فيقتلُوني فيها، فلما قلتُ إني سرقتُه قطعوا يدي وقلَوها في الزيت[13]، فغُشي علي فسقَوني الشرابَ حتى أفقت، فأخذتُ يدي وجئتُ إلى القاعة، فقالَ صاحبُ القاعة:
"حيثما جرى لك هذا فأَخلِ القاعة، وانظرْ لك موضعا آخر، لأنك متهمٌ بالحرام."
فقلتُ له:
"يا سيدي، اِصبِرْ عليّ يومين أو ثلاثةَ حتى أنظرَ لي موضعا."
قال:
"نعم."
ومضَى وتركَني فبقِيتُ قاعدا أبكي وأقول:
"كيف أرجِعُ إلى أهلي وأنا مقطوعُ اليد، والذي قطعَ يدي لم يعلمْ أني بريء، فلعل اللهَ يحدثُ بعدَ ذلك أمرا."
وصرتُ أبكي بكاءً شديدا، فلما مضَى صاحبُ القاعةِ عني لحِقني غمٌ شديد، فتشوشتُ يومين، وفي اليومِ الثالثِ ما أدري إلا وصاحبُ القاعةِ جاءني ومعه بعضُ الظَلَمةِ وكبيرُ السوق وادّعى علي أني سرقتُ العِقد، فخرجتُ لهم وقلتُ لهم:
"ما الخبر؟"
فلم يمهلوني بل كتفوني ووضعوا في رقبتي جَنزيرا[14] وقالوا لي:
"إن العِقدَ الذي كان معك طلَعَ لصاحبِ دِمَشقَ ووزيرِها وحاكمِها."
وقالوا:
"إن هذا العِقدَ قد ضاعَ من بيتِ الصاحبِ من مدةِ ثلاثِ سنين، ومعه ابنتُه."
فلما سمِعتُ هذا الكلامَ منهم ارتعدت مفاصلي وقلتُ في نفسي، يقتلونني ولا محالة، واللهِ لابد أنني أحكي للصاحبِِ حكايتي، فإن شاءَ قتلني وإن شاءَ عفا عني، فلما وصلنا إلى الصاحبِ أوقفَني بين يديه فلما رآني قال:
"أهذا الذي سرقَ العِقدَ ونزَل به ليبيعه؟ إنكم قطعتُم يدَه ظلما.”
ثم أمرَ بسَّجنِ كبيرِ السوق، وقالَ له:
"أَعطِ هذا ديةَ يدِه، وإلا أشنقْكَ وآخذْ جميعَ مالِك."
ثم صاحَ على أتباعِه فأخذُوه وجرُوه وبقِيتُ أنا والصاحبُ وحدَنا بعد أن فكُوا الغُلَّ[15] من عنقي بإذنِه، وحلُوا وثاقي، ثم نظرَ إليّ الصاحبُ وقالَ لي:
"يا ولدي حدثني واصدُقني[16]، كيف وصل إليك هذا العِقد؟"
فقلت:
"يا مولاي، إني أقولُ لك الحق."
ثم حدثتُه بجميعِ ما جرى لي مع الصبيةِ الأولى، وكيف جاءتني بالثانية، وكيف ذبحَتها من الغيرة، وذكرتُ له الحديثَ بتمامِه، فلما سمِعَ كلامي هزَّ رأسَه، وحطَّ مِنديلَه على وجهِه وبكى ساعة، ثم أقبلَ عليّ وقالَ لي:
"اعلَمْ يا ولدي إن الصبيةَ الكبيرةَ بنتي، وكنتُ
أحجرُ[17] عليها. فلما بلَغت أرسلتُها إلى وَلَدِ عمِها بمصر، فماتَ فجاءتني وقد تعلمت
العِهرَ من أولاد مصر. وجاءتك أربعَ مرات، ثم جاءتك بأختِها الصغيرة، والاثنتان شقيقتان وكانتا محبتين لبعضِهما، فلما جرى للكبيرةِ ما جرى، أخرجت سرَها على أختِها فطلبت مني الذهاب معها ثم رجَعت وحدَها، فسألتُها عنها فوجدتُها تبكي عليها، وقالت: لا أعلمُ لها خبرا. ثم قالت لأمِها سرًا جميعَ ما جرَى من ذبحِها أختَها، فأخبرتني أمُها سرًا، ولم تزلْ تبكى وتقولُ:
"واللهِ، لا أزال أبكي عليها حتى أموت."
وكلامُك يا ولدي صحيح، فإني أعلمُ بذلك قبلَ أن تخبرَني به، فانظرْ يا ولدي ما جرى، وأنا أشتهي منك أن لا تخالفُني فيما أقولُ لك، وهو أني أريدُ أن أزوجَك ابنتي الصغيرة فإنها ليست شقيقًة لهما وهي بِكر، ولم آخذْ منك مهرا، وأجعلُ لكما راتبا من عِندي، وتبقى عِندي بمنزلةِ ولدي."
فقلتُ له:
"الأمرُ كما تريدُ يا سيدي، ومن أين لي أن أصِلَ إلى ذلك."
فأرسلَ الصاحبُ في الحالِ من عِندِه بريدا، وأتاني بمالي الذي خلَفَه والدي، وأنا اليومَ في أرغدِ عَيش."
فتعجبتُ منه وأقمتُ عِندَه ثلاثةَ أيام، وأعطاني مالا كثيرا وسافرتُ من عِندِه، فوصلتُ إلى بلدِكم هذه، فطابت لي فيها المعيشة، وجرى لي مع الأحدبِ ما جرى."
فقالَ ملكُ الصين:
"ما هذا بأعجبِ من حديثِ الأحدب، ولابد لي من شنقِكم جميعا. وخصوصا الخياطَ الذي هو رأسُ كلِ خطيئة."
ثم قال:
"يا خياط، حدثني بشيءٍ أعجبَ من حديثِ الأحدب وهبتُ لكم ذنوبَكم."
[1] الإيوان: هو قاعة أو مساحة مستطيلة، عادة ما تكون مقببة، ومحاطة بسور من ثلاث جهات، مع جهة مفتوحة بالكامل. تُسمى البوابة الرسمية للإيوان البُشتاق. رغم ارتباط الإيوانات في الغالب بالعمارة الإسلامية؛ فإن التكوين فارسي الأصل والكلمة أيضا فارسية.
[2] المارَسْتانُ، بفتح الراء: المستشفى وهو معرب.
[3] أضفت الواو العاطفة هنا عن الأصل.
[4] الأبيات منسوبة للقاضي الفاضل (١١٣٥-١٢٠٠ ق ع ر) وزير السلطان صلاح الدين الأيوبي. قال فيه الأيوبي (لا تظنوا أني ملكت البلاد بسوفيكم بل بقلم القاضي الفاضل). ولد في عسقلان شمال غزة قبل أن ينتقل إلى الإسكندرية ثم القاهرة.
[5] كتبت في الأصل "بنينة" وربما هي خطأ مطبعي.
[6] في الأبيات الأصلية للقاضي الكلمة "أُعيذ" بمعنى استجير وليست "أظن"
[7] أوصال جمع وَصْلٌ و وُصْلٌ "أَوْصَالُ الجِسْمِ": مَفَاصِلُ العِظَامِ. وأجد استخدامها غريب بعض الشيء هنا.
[8] ردَّ: أرجع. وهنا بمعنى أرجع الباب إلى وضع الإغلاق أي أغلقه. وقد سمعتها تستخدم بهذا المعنى في اللغة المصرية من الأجيال القديمة. وهناك أغنية مصرية شهرية بعنوان "ياأما القمر عالباب" يوجد بها مقطع يقول "يا أما أرد الباب ولا أناديله؟" أي هل أغلق الباب أم أنادي عليه.
[9] المَقام: المجلس، المُقام: الإقامة
[10] كتبت في الأصل "بذنها" بالذال.
[11] في الأصل "وإذا بالعقد مثمن بلغ ثمنه ألفي دينار" بغير واو وقد أضفت واو العطف لاعتقادي أنها تجعل الصياغة أكثر سلاسة.
[12] حواشي: جمع حاشية. حاشية الثوب: بطانته وأعتقد أن منها جاءت حاشية الملك أو بطانته وتعني رفقاءه ومعاونيه.
[13] كتبت في الأصل: ذيت
[14] جَنزير: سلسلة من المعدن. ولا توجد في المعاجم القديمة فيما ذكرها الوسيط. وربما هي من أصل فارسي.
[15] غُلّ: هو الحديدة التي تجمع يد الأَسير إِلى عُنقه.
[16] كتبت في الأصل بهمزة قطع. وقد صححها هنداوي أيضا في نسخته إلى وصل.
[17] حجَر يحجُر: منع وهنا ربما بمعنى حبسها.ثم إن اليهودي تقدمَ وقبَّل الأرضَ وقال:
"يا ملكَ الزمان، أنا أحدثُك بحديثٍ أعجبَ من حديثِ الأحدب."
فقالَ ملكُ الصين:
"هاتِ ما عِندَك."
فقال:
"أعجب ُما جرى لي في زمنِ شبابي أني كنتُ في دِمشقَ الشام، وتعلمتُ صنعةً فعمِلتُ فيها، فبينما أنا أعمَلُ في صنعتي يوما من الأيام إذ أتاني مملوكٌ من بيتِ الصاحبِ بِدمَشق فخرجتُ له وتوجهتُ معه إلى منزلِ الصاحب، فدخلتُ فرأيتُ في صدرِ الإيوانِ[1] سريرا من المرمرِ بصفائح ِ الذهب. وعليه آدميٌ مريضٌ راقد، وهو شابٌ لم يُرَ أحسنَ منه في زمانِه، فقعدتُ عِندَ رأسِه ودعوتُ له بالشفاء، فأشارَ إليّ بعينِه، فقلتُ له: ياسيدي ناولني يدَك، فأخرجَ يدَه اليسرى، فتعجبتُ من ذلك وقلتُ في نفسي: ياللهِ العجب، إن هذا الشابَ مليحٌ، ومن بيتٍ كبير، وليس عِندَه أدب، إن هذا هو العجب. ثم جسستُ مفاصلَه وكتبتُ له ورقةً ومكثتُ أترددُ عليه مدةَ عشرةِ أيام حتى تعافى ودخلَ الحمامَ واغتسلَ وخرج، فخلعَ علي الصاحبُ خِلْعةً مليحةً وجعلني مباشرا عِندَه في المارَسْتان[2] الذي بدِمَشق، فلما دخلتُ معه الحمام، وقد أخلَوه لنا من جميعِ الناس، ودخلَ الخادمُ بالثيابِ وأخذَ ثيابَه التي كانت عليه من داخلِ الحمام، فبعدَ أن تعرَى رأيتُ بيدِه اليمينِ قَطْعا صعبا، فلما رأيتُه أخذتُ أتعجبُ وحزِنتُ عليه ونظرتُ إلى جسدِه فوجدتُ عليه آثارَ ضربِ مقارع، فصِرتُ أتعجبُ من أجلِ ذلك، فنظرَ إلي الشابُ وقالَ لي:
"يا حكيمَ الزمان، لا تعجبْ من أمري فسوف أحدثُك بحديثي حتى تخرجَ من الحمام."
فلما خرجنا من الحمامِ وصلنا إلى الدارِ وأكلنا الطعام، واسترحنا، قالَ الشاب:
"هل لك أن تتفرجَ في الغرفة؟"
فقلت:
"نعم"
فأمرَ العبيدَ أن يُطَلَّعوا الفرشَ إلى فوق، وأمرَهم أن يشووا خروفان و[3]يأتُوا إلينا بفاكهة، ففعل العبيد ما أمرهم به، وأتوا بالفاكهة فأكلنا، وأكل هو بيدِه الشِّمال، فقلتُ له حدثني بحديثِك، فقالَ لي:
"يا حكيمَ الزمان، اِسْمَعْ حكاية ما جرى لي... اِعلمْ أنني من أولادِ الموصل، وكان لي والدٌ قد تُوُفي أبوه وخلَفَ عشرةَ أولادٍ ذكور من جملتِهم والدي، وكان أكبرَهم،
فكبِروا كلُهم وتزوجوا ورُزِقَ والدي بي، وأما إخوتُه التسعةُ فلم يرزقوا بأولاد، فكبِرتُ أنا وصرتُ بين أعمامي، وهم فرِحون بي فرحا شديدا، فلما كبِرتُ وبلغتُ مبلغَ الرجال، كنتُ ذات يومٍ مع والدي في جامعِ الموصل، وكان اليومُ يومَ جمعة فصلينا الجمعةَ وخرجَ الناسُ جميعا، وأما والدي وأعمامي فإنهم قعَدوا يتحدثون في عجائبِ البلاد وغرائبِ المدن إلى أن ذكروا مصر، فقالَ بعضُ أعمامي إن المسافرين يقولون ما على وجهِ الأرضِ أحسنُ من مصرَ ونيلِها، ولقد أحسنَ من قال فيها وفي نيلِها هذَين البيتين[4]:
باللهِ قلْ للنيلِ عني إنني
لم أَشفِ من ماءِ الفراتِ غليلاً
يا قلبُ كم خلَفتَ ثمَّ بثينةً[5]
وأظن[6] صبرَك أن يكونَ جميلا
ثم إنهم أخذوا يصفون مصرَ ونيلَها، فلما فرَغوا من كلامِهم وسمِعتُ أنا هذه الأوصالَ[7] التي في مصرَ صارَ خاطري مشغولاً بها، ثم انصرفوا وتوجه كلٌ منهم إلى منزلِه، فبِتُ تلك الليلةَ لم يأتني نومٌ من شغفي بها، ولم يطِبْ ليّ أكلٌ ولا شرب، فلما كان بعدَ أيامٍ قلائلَ تجهزَ أعمامي إلى مصر، فبكَيتُ على والدي لأجلِ الذهابِ معهم حتى جهزَ لي متجرا ومضَيتُ معهم وقالَ لهم:
"لا تدَعوه يدخلَ مصرَ بل اتركوه في دِمشقَ ليبيعَ متجرَه فيها."
ثم سافرنا وودعتُ والدي وخرجنا من الموصل، ومازلنا مسافرين حتى وصلنا إلى حلب، فأقمنا بها أياما، ثم سافرنا إلى أن وصلنا دمشق، فرأيناها مدينةً ذاتَ أشجارٍ وأنهارٍ وأثمارٍ وأطيارٍ، كأنها جنةٌ فيها من كلِ فاكهة، فنزَلنا في بعضِ الخانات، واستمرَ بها أعمامي حتى باعوا واشتروا وباعوا بضاعتي فربِحَ الدِرهمُ خمسةَ دراهمَ ففرِحتُ بالربحِ.
ثم تركني أعمامي وتوجهوا إلى مصرَ فمَكَثتُ بعدَهم وسكَنتُ في قاعٍة مليحةِ البُنيان، يُعجَزُ عن وصفِها باللسان أُجرتُها كلَ شهرٍ ديناران، وصرتُ أتلذذُ بالمآكلِ والمشاربِ حتى صرَفتُ المالَ الذي كان معي، فبينما أنا قاعدٌ على بابِ القاعةِ يوما من الأيامِ وإذا بصبيةٍ أقبلت عليّ وهي لابسةٌ أفخرَ الملابس، ما رأت عينِي أفخرَ منها، فعزَمتُ عليها فما قصََّرَت بل صارت داخلَ الباب، فلما دخل ت ظفِرتُ بها وفرحتُ بدخولِها فرددتُ[8] البابَ عليّ وعليها، وكشفَت عن وجهِها وقلعت إزارَها، فوجدتُها بديعةَ الجمال، فتمكنَّ حبُها من قلبي، فقمتُ وجئتُ بسفرةٍ من أطيبِ المأكولِ والفاكهةِ وما يحتاجُ إليه المَقام، وأكلنا ولعِبنا وبعدَ اللعِبِ شرِبنا حتى سكِرنا ثم نمتُ معها في أطيبِ ليلةٍ إلى الصباح، وبعدَ ذلك أعطيتُها عشرةَ دنانيرَ فحلَفت أنها لا تأخذُ الدنانيرَ مني، ثم قالت:
"يا حبيبي، انتظرْني بعدَ ثلاثةِ أيامٍ وقتَ المغرب أكونُ عِندَك، وهيءْ لنا بهذه الدنانيرِ مثلَ هذا."
وأعطتني هي عشرةَ دنانيرَ وودعتني وانصرفت، فأخذَت عقلي معها، فلما مضت الأيامُ الثلاثةُ أتت وعليها من المزركشِ والحَلْيِ والحُللِ أعظمُ مما كان عليها أولا، وكنتُ هيأتُ لها ما يليقُ
بالمَقام قبل أن تحضُرَ، ثم أكلنا وشرِبنا ونمنا مثلَ العادةِ إلى الصباح، ثم أعطتني عشرةَ دنانيرَ و واعدتني بعدَ ثلاثةِ أيامٍ أنها تحَضُرُ عِندي، فهيأتُ لها ما يليقُ بالمَقام، وبعدَ ثلاثةِ أيامٍ حضَرَت في قماشٍ أعظمَ من الأولِ والثاني ثم قالت لي:
"يا سيدي، هل أنا مليحة؟"
فقلت:
"أي واللهِ."
فقالت:
"هل تأذنُ لي أن أجيءَ معي بصبيةٍ أحسنَ مني وأصغرَ سنا مني تلعبُ معنا، ونضحَكُ وإياها، فإنها سألتني أن تخرجَ معي وتبيتَ معنا لنضحَكَ وإياها."
ثم أعطتني عشرين دينارا، وقالت لي:
"زِد لنا المَقامَ[9] لأجلِ الصبيةِ التي تأتي معي."
ثم إنها ودعتني وانصرفت. فلما كان اليومُ الرابعُ جهزتُ لها ما يليقُ بالمَقامِ على العادة، فلما كان بعدُ المغرِب، وإذا بها قد أتت ومعها واحدةٌ ملفوفةُ بإزار، فدخلتا وجلستا ففرِحتُ وأوقدتُ الشموعُ واستقبلتُهما بالفرحِ والسرور، فقامتا ونزعتا ما عليهما من القماش، وكشفت الصبيةُ الجديدةُ عن وجهِها، فرأيتُها كالبدرِ في تمامِه، فلم أرَ أحسنَ منها، فقمتُ وقدمتُ لهما الأكلَ والشربَ، فأكلنا وشرِبنا وصرتُ أُقَبلُ الصبيةَ الجديدةَ وأملأُ لها القدحَ وأشربُ معها، فغارت الصبيةُ الأولى في الباطنِ ثم قالت:
"باللهِ، إن هذه الصبيةَ مليحةٌ، أما هي أظرفُ مني؟"
قلت:
"أي والله."
قالت:
"خاطري أن تنامَ معها."
قلت:
"على رأسي وعيني."
ثم قامت وفرَشت لنا، فقمتُ ونمتُ مع الصبيةِ الجديدةِ إلى وقتِ الصبح، فلما أصبحتُ وجدتُ يدي ملوثةً بدم، ففتحتُ عينَي فوجدتُ الشمسَ قد طلَعت فنبهتُ الصبيةَ، فتدحرجت رأسُها عن بدنِها[10]، فظننتُ أنها فعلت ذلك من غيرتِها منها، ففكرتُ ساعة ثم قمتُ قلعتُ ثيابي وحفرتُ في القاعةِ ووضعتُ الصبيةَ ورددتُ عليها الترابَ وأعدتُ الرخامَ كما كان، ثم لبِستُ وأخذتُ بقيةَ مالي وخرجتُ، وجئتُ إلى صاحبِ القاعةِ ودفعتُ له أجرةَ سنة وقلتُ له:
" أنا مسافرٌ إلى أعمامي بمصر."
ثم سافرتُ إلى مصرَ واجتمعتُ بأعمامي، ففرِحوا بي ووجدتُهم قد فرَغوا من بيعِ متجرِهم ثم قالوا لي:
"ما سببُ مجيئِك؟"
فقلتُ لهم:
"اشتقتُ إليكم، وخفتُ أن لا يبقى معي شيءٌ من مالي."
فأقمتُ عِندَهم سنةً وأنا أتفرجُ على مِصرَ ونيلِها، ووضعتُ يدي في بقيةِ مالي، وصرتُ
أصرِفُ منه وآكلُ وأشربُ حتى قرُبَ سفرُ أعمامي، فهرِبتُ منهم، فقالوا:
"لعله سبَقنا ورجَعَ إلى دمشق."
فسافروا وخرجتُ أنا فأقمتُ بمصرَ ثلاثَ سنين، وصرتُ أصرِفُ حتى لم يبقَ معي من المالِ شيءٌ، وأنا في كلِ سنةٍ أرسلُ إلى صاحبِ القاعةِ أجرتَها، وبعدَ الثلاثِ سنين ضاقَ صدري، ولم يبقَ معي إلا أجرةَ السنةِ فقط، فسافرتُ حتى وصلتُ إلى دمشق، ونزلتُ في القاعة، ففرِحَ بي صاحبُها، فدخلتُ القاعة، ومسحتُها من دمِ الصبيةِ المذبوحة، ورفعتُ المِخَدَّة فوجدتُ تحتَها العِقدَ الذي كان في عنقِ تلك الصبية، فأخذتُه وتأملتُه وبكيتُ ساعة، ثم أقمتُ يومين، وفي اليومِ الثالث دخلتُ الحمامَ وغيرتُ أثوابي وأنا ما معي شيءٌ من الدراهم، فجئتُ يوما إلى السوق، فوَسوسَ ليَّ الشيطانُ لأجلِ إنفاذِ القدر، فأخذتُ العِقدَ الجوهرَ، وتوجهتُ به إلى السوقِ، وناولتُه للدلال، فقامَ لي وأجلسني بجانبِه وصبَرَ حتى عمَرَ السوق، وأخذَه الدلالُ ونادى عليه خِفيةً وأنا لا أعلم، وإذا بالعِقدِ مثمنٌ، و[11]بلغ ثمنه ألفي دينار، فجاءني الدلالُ وقالَ لي:
"إن هذا العِقدَ نُحُّاسٌ مصنوعٌ بصنعةِ الإفرنج، وقد وصلَ ثمنُه إلى ألفِ دِرهم، فقلتُ له:
"نعم. هذا كنا صنعناه لواحدةٍ نضحكُ عليها به، وورثتها زوجتي، فأردنا بيعَه، فرُحْ واِقبضْ الألفَ درهمٍ و... أدركَ شهرزادَ الصباح فسكتت عن الكلامِ المباح.
فلما كانت الليلةُ الثامنةُ والعِشرون
قالت بلغني أيها الملكُ السعيد أن الشابَ لما قالَ للدلالِ اِقبضْ الألفَ دِرهمٍ، وسمِعَ الدلالُ ذلك، عَرَف أن قضيتَه مشكلة، فتوجه بالعِقدِ إلى كبيرِ السوق، وأعطاه إياه فأخذَه وتوجه به إلى الوالي، وقال له:
"إن هذا العقدَ سُرِقَ من عِندي ووجدنا الحرامي لابسا لِباسَ أولادِ التجار."
فلم أشعرُ إلا والظَلَمَةُ قد أحاطوا بي وأخذوني وذهبوا بي إلى الوالي، فسألني الوالي عن ذلك العِقدِ فقلتُ له ما قلتُه للدلال، فضحِك الوالي وقال:
"ما هذا كلامُ الحق."
فلم أدرِ إلا وحواشيه[12] جردوني من ثيابي وضربوني بالمقارعِ على جميعِ بدني، فأحرقني الضرب، فقلت:
" أنا سرقتُه."
وقلتُ في نفسي إن الأحسنَ أني أقولُ أنا سرقتُه ولا أقولُ إن صاحبتَه مقتولةٌ عنِدني
فيقتلُوني فيها، فلما قلتُ إني سرقتُه قطعوا يدي وقلَوها في الزيت[13]، فغُشي علي فسقَوني الشرابَ حتى أفقت، فأخذتُ يدي وجئتُ إلى القاعة، فقالَ صاحبُ القاعة:
"حيثما جرى لك هذا فأَخلِ القاعة، وانظرْ لك موضعا آخر، لأنك متهمٌ بالحرام."
فقلتُ له:
"يا سيدي، اِصبِرْ عليّ يومين أو ثلاثةَ حتى أنظرَ لي موضعا."
قال:
"نعم."
ومضَى وتركَني فبقِيتُ قاعدا أبكي وأقول:
"كيف أرجِعُ إلى أهلي وأنا مقطوعُ اليد، والذي قطعَ يدي لم يعلمْ أني بريء، فلعل اللهَ يحدثُ بعدَ ذلك أمرا."
وصرتُ أبكي بكاءً شديدا، فلما مضَى صاحبُ القاعةِ عني لحِقني غمٌ شديد، فتشوشتُ يومين، وفي اليومِ الثالثِ ما أدري إلا وصاحبُ القاعةِ جاءني ومعه بعضُ الظَلَمةِ وكبيرُ السوق وادّعى علي أني سرقتُ العِقد، فخرجتُ لهم وقلتُ لهم:
"ما الخبر؟"
فلم يمهلوني بل كتفوني ووضعوا في رقبتي جَنزيرا[14] وقالوا لي:
"إن العِقدَ الذي كان معك طلَعَ لصاحبِ دِمَشقَ ووزيرِها وحاكمِها."
وقالوا:
"إن هذا العِقدَ قد ضاعَ من بيتِ الصاحبِ من مدةِ ثلاثِ سنين، ومعه ابنتُه."
فلما سمِعتُ هذا الكلامَ منهم ارتعدت مفاصلي وقلتُ في نفسي، يقتلونني ولا محالة، واللهِ لابد أنني أحكي للصاحبِِ حكايتي، فإن شاءَ قتلني وإن شاءَ عفا عني، فلما وصلنا إلى الصاحبِ أوقفَني بين يديه فلما رآني قال:
"أهذا الذي سرقَ العِقدَ ونزَل به ليبيعه؟ إنكم قطعتُم يدَه ظلما.”
ثم أمرَ بسَّجنِ كبيرِ السوق، وقالَ له:
"أَعطِ هذا ديةَ يدِه، وإلا أشنقْكَ وآخذْ جميعَ مالِك."
ثم صاحَ على أتباعِه فأخذُوه وجرُوه وبقِيتُ أنا والصاحبُ وحدَنا بعد أن فكُوا الغُلَّ[15] من عنقي بإذنِه، وحلُوا وثاقي، ثم نظرَ إليّ الصاحبُ وقالَ لي:
"يا ولدي حدثني واصدُقني[16]، كيف وصل إليك هذا العِقد؟"
فقلت:
"يا مولاي، إني أقولُ لك الحق."
ثم حدثتُه بجميعِ ما جرى لي مع الصبيةِ الأولى، وكيف جاءتني بالثانية، وكيف ذبحَتها من الغيرة، وذكرتُ له الحديثَ بتمامِه، فلما سمِعَ كلامي هزَّ رأسَه، وحطَّ مِنديلَه على وجهِه وبكى ساعة، ثم أقبلَ عليّ وقالَ لي:
"اعلَمْ يا ولدي إن الصبيةَ الكبيرةَ بنتي، وكنتُ
أحجرُ[17] عليها. فلما بلَغت أرسلتُها إلى وَلَدِ عمِها بمصر، فماتَ فجاءتني وقد تعلمت
العِهرَ من أولاد مصر. وجاءتك أربعَ مرات، ثم جاءتك بأختِها الصغيرة، والاثنتان شقيقتان وكانتا محبتين لبعضِهما، فلما جرى للكبيرةِ ما جرى، أخرجت سرَها على أختِها فطلبت مني الذهاب معها ثم رجَعت وحدَها، فسألتُها عنها فوجدتُها تبكي عليها، وقالت: لا أعلمُ لها خبرا. ثم قالت لأمِها سرًا جميعَ ما جرَى من ذبحِها أختَها، فأخبرتني أمُها سرًا، ولم تزلْ تبكى وتقولُ:
"واللهِ، لا أزال أبكي عليها حتى أموت."
وكلامُك يا ولدي صحيح، فإني أعلمُ بذلك قبلَ أن تخبرَني به، فانظرْ يا ولدي ما جرى، وأنا أشتهي منك أن لا تخالفُني فيما أقولُ لك، وهو أني أريدُ أن أزوجَك ابنتي الصغيرة فإنها ليست شقيقًة لهما وهي بِكر، ولم آخذْ منك مهرا، وأجعلُ لكما راتبا من عِندي، وتبقى عِندي بمنزلةِ ولدي."
فقلتُ له:
"الأمرُ كما تريدُ يا سيدي، ومن أين لي أن أصِلَ إلى ذلك."
فأرسلَ الصاحبُ في الحالِ من عِندِه بريدا، وأتاني بمالي الذي خلَفَه والدي، وأنا اليومَ في أرغدِ عَيش."
فتعجبتُ منه وأقمتُ عِندَه ثلاثةَ أيام، وأعطاني مالا كثيرا وسافرتُ من عِندِه، فوصلتُ إلى بلدِكم هذه، فطابت لي فيها المعيشة، وجرى لي مع الأحدبِ ما جرى."
فقالَ ملكُ الصين:
"ما هذا بأعجبِ من حديثِ الأحدب، ولابد لي من شنقِكم جميعا. وخصوصا الخياطَ الذي هو رأسُ كلِ خطيئة."
ثم قال:
"يا خياط، حدثني بشيءٍ أعجبَ من حديثِ الأحدب وهبتُ لكم ذنوبَكم."
[1] الإيوان: هو قاعة أو مساحة مستطيلة، عادة ما تكون مقببة، ومحاطة بسور من ثلاث جهات، مع جهة مفتوحة بالكامل. تُسمى البوابة الرسمية للإيوان البُشتاق. رغم ارتباط الإيوانات في الغالب بالعمارة الإسلامية؛ فإن التكوين فارسي الأصل والكلمة أيضا فارسية.
[2] المارَسْتانُ، بفتح الراء: المستشفى وهو معرب.
[3] أضفت الواو العاطفة هنا عن الأصل.
[4] الأبيات منسوبة للقاضي الفاضل (١١٣٥-١٢٠٠ ق ع ر) وزير السلطان صلاح الدين الأيوبي. قال فيه الأيوبي (لا تظنوا أني ملكت البلاد بسوفيكم بل بقلم القاضي الفاضل). ولد في عسقلان شمال غزة قبل أن ينتقل إلى الإسكندرية ثم القاهرة.
[5] كتبت في الأصل "بنينة" وربما هي خطأ مطبعي.
[6] في الأبيات الأصلية للقاضي الكلمة "أُعيذ" بمعنى استجير وليست "أظن"
[7] أوصال جمع وَصْلٌ و وُصْلٌ "أَوْصَالُ الجِسْمِ": مَفَاصِلُ العِظَامِ. وأجد استخدامها غريب بعض الشيء هنا.
[8] ردَّ: أرجع. وهنا بمعنى أرجع الباب إلى وضع الإغلاق أي أغلقه. وقد سمعتها تستخدم بهذا المعنى في اللغة المصرية من الأجيال القديمة. وهناك أغنية مصرية شهرية بعنوان "ياأما القمر عالباب" يوجد بها مقطع يقول "يا أما أرد الباب ولا أناديله؟" أي هل أغلق الباب أم أنادي عليه.
[9] المَقام: المجلس، المُقام: الإقامة
[10] كتبت في الأصل "بذنها" بالذال.
[11] في الأصل "وإذا بالعقد مثمن بلغ ثمنه ألفي دينار" بغير واو وقد أضفت واو العطف لاعتقادي أنها تجعل الصياغة أكثر سلاسة.
[12] حواشي: جمع حاشية. حاشية الثوب: بطانته وأعتقد أن منها جاءت حاشية الملك أو بطانته وتعني رفقاءه ومعاونيه.
[13] كتبت في الأصل: ذيت
[14] جَنزير: سلسلة من المعدن. ولا توجد في المعاجم القديمة فيما ذكرها الوسيط. وربما هي من أصل فارسي.
[15] غُلّ: هو الحديدة التي تجمع يد الأَسير إِلى عُنقه.
[16] كتبت في الأصل بهمزة قطع. وقد صححها هنداوي أيضا في نسخته إلى وصل.
[17] حجَر يحجُر: منع وهنا ربما بمعنى حبسها.