ورق أصفر
ورق أصفر
ألف ليلة وليلة ٢٣: قصة المباشر
تواصل شهرازاد حكاية الخياط والأحدب... وبعد أن أنهى النصراني حكايته يأتي المباشر ويحاول أن يحكي قصة أفضل من قصة الأحدب. فكيف تسبب طبق من الدجاج في مأساة لشاب من التجار، وكيف انتهى به الأمر في ميسور الحال تعويضا عما جرى له.
فلما كانت الليلةُ السابعةُ والعِشرُون
قالت "بلغَني أيها الملكُ السعيد أن ملكَ الصينِ لما قالَ لابد من شنقِكِم، فعند ذلك تقدم المباشرُ إلى ملكِ الصين وقال إن أذنتَ لي حكَيتُ لك حكايةً اتفقت لي في تلك المدةِ قبلَ أن أجدَ هذا الأحدب، وإن كانت أعجبَ من حديثِه تهبُ لنا أرواحَنا، فقالَ الملك:
"هات ما عندك."
فقال:
"اعلم أني كنتُ الليلةَ الماضيةَ عِندَ جماعةٍ عمِلوا ختمةً وجمعوا الفقهاء، فلما قرأَ المقرئون[1] وفرَغوا مدوا السِّماطَ فمن جملةِ ما قدموا زرباجة فتقدمنا لنأكل من الزِرباجة [2]فتأخرَ واحدٌ منا وامتنعَ من الأكلِ منها، فحَلَفنا عليه، فأقسمَ
أنه لا يأكلُ منها فشددنا عليه، فقال:
"لا تُشَدِدوا عليّ فكفاني ما جرَى من أكلِها."
ثم أنشدَ هذا البيت[3]:
إذا صديقٌ نكِرتُ[4] جانبَه
لم تعيني في فراقِـه الحيـلُ
فلما فرَغنا قلنا له:
"باللهِ ما سببُ امتناعِك من الأكلِ من هذه الزِرباجة؟"
فقال:
"لأني لا آكلُ منها إلا إن غسلتُ يدي أربعين مرة بالأشنان[5]،
وأربعين مرًة بالسُّعد[6]، وأربعينَ مرًة بالصابون، فجملتُها مائةٌ وعِشرون مرة."
فعِندَ ذلك أمرَ صاحبُ الدعوةِ غِلمانَه، فأتَوا بالماءِ وبالذي طلبَه، فغسلَ يديه كما ذكر، ثم تقدمَ وهو متكرِّه، وجلسَ ومدَ يدَه وهو مثلُ الخائف، ووضعَ يدَه في الزِر باجه، وصارَ يأكلُ وهو متعصب، ونحن نتعجبُ منه غايةَ التعجب، ويدُه ترتعد، فنصبَ إبهامَ يدِه، فإذا هو مقطوع، وهو يأكلُ بأربعةِ أصابع، فقلنا له:
"باللهِ عليك، ما لإبهامِك هكذا؟ أهو خِلقةُ اللهِ أم أصابَه حادث؟"
فقال:
"يا إخواني، ما هو هذا الإبهامُ وحدُه، ولكن إبهامِ الأخرى، وكذلك رجلاي الاثنان، ولكن انظروا."
ثم كشفَ إبهامَ يدِه الأخرى فوجدناها مثلَ اليمين، وكذلك رجلاه بلا إبهامين، فلما رأيناه كذلك ازددنا عجبا وقلنا:
"ما بقِيَ لنا صبرٌ على حديثِك والإخبارِ بسببِ قطعِ إبهامَي يديك وإبهامَي رجليك، وسببِ غسلِ يديك مائةً وعِشرينَ مرة."
فقال:
"اعلموا أن والدي كان تاجرا من التجارِ الكبار، وكان أكبرَ تجارِ مدينةِ بغداد في أيامِ الخليفةِ هرون الرشيد، وكان مولعا بشربِ الخمر وسماعِ العود، فلما مات لم يتركْ شيئا، فجهزتُه، وقد عمِلتُ له خَتماتٍ وحزِنتُ عليه أياما وليالٍ[7]، ثم فتحتُ دكانَه فما وجدتُه خلفَ إلا يسيرا، ووجدتُ عليه ديونا كثيرة، فصبَّرتُ أصحابَ الديونِ وطيبتُ خواطرَهم، وصرتُ أبيعُ وأشتري وأعطي من الجمعةِ إلى الجمعةِ أصحابَ الديونِ ولازلتُ على هذه الحالةِ مدة، إلى أن وفيتُ الديون، وزدتُ على رأسِ مالي، فبينما أنا جالسٌ يوما من الأيام، إذ رأيتُ صبيةً لم ترْ عيني أحسنَ منها، عليها
حَلَى وحُلل فاخرة وهي راكبةٌ بغلة وقدامَها عبدٌ ووراءها عبد، فأوقفت البغلةَ على رأسِ السوقِ ودخلت ودخل خلفَها خادم وقال:
"يا سيدتي، اخرجي ولا تعلمي أحدا فتطلقي فينا النار."
ثم حجبَها الخادم، فلما مرت إلى دكاكين ِالتجار، لم تجدْ أفخرَ من دكاني، فلما وصلت إلى جهتي والخادم خلفَها جلست على دكاني وسلمت علي، فما سمعت أحسن من حديثها ولا أعذب من كلامِها، ثم كشفت عن وجهها، فنظرتها نظرة أعقبتني ألف حسرة، وتعلق قلبي بمحبتِها، وجعلت أكررُ النظرَ إلى وجهها، وأنشدتُ هذين البيتين:
قل للمليحة في الخمارِ الفاختِ[8]
الموتُ حقا من عذابِك راحتي
جودي على بزَّورةٍ[9] أحيا بها
ها قد مددتُ إلى نَّوالِك راحتي
فلما سمِعَت إنشادَهما أجابتني بهذه الأبيات:
عدِمتُ فؤادي في الهوى إن سلاكـم
فـإن فـــؤاديَ لا يـحـبُ ســــواكـــم
وإن نظرت عيني إلى غيرِ حسِـنكـم
فـلا سـرَّهـا بـعـدَ الـبُـعـاد لـِقـاكُـــــم
حلَفتُ يَـمـيـنا لـسـتُ أسـلـو هـواكَـم
وقـلـبـي حـزيـنٌ مـغـرمٌ بـهـواكُــــم
سقاني الهوى كاسا من الحبِ صافيا
فـيـالـيـتـه لـمـا سـقـانـي سـقـاكُـــــم
خذوا رمقي حيث استقرت بكم نوى
وأيـن حـلَـلـتُـم فـادفـنـونـي حـذاكــم
وإن تذكروا اسمي عندَ قبري يجيبُكم
أنـيـنُ عـظـامـي عـنـدَ رفــعِ نـداكـــم
فـلـو قـيـلَ لي مـاذا عـلـى اللهِ تـشتهي
لـقـلـتُ رضـا الـرحـمـن ثـم رضـاكُـم
فلما فرَغت من شعرِها قالت:
"يا فتى، أعندك تفاصيلُ ملاح؟"
فقلت:
"يا سيدتي، مملوكُك فقيرٌ ولكن اِصبِري حتى تفتحَ التجارُ دكاكينَهم وأجيءْ لك بما تريدينه."
ثم تحدثتُ أنا وإياها وأنا غارقٌ في بحرِ محبتِها، تائهٌ في عشقِها حتى فتحت التجارُ دكاكينَهم، فقمتُ وأخذتُ لها جميعَ ما طلبته، وكان ثمنُ ذلك خمسةَ آلافِ دِرهمٍ وناولتُ الخادمَ جميعَ ذلك، فأخذَه الخادم، وذهبا إلى خارجِ السوق، فقدموا لها البغلةَ
فركِبَت، ولم تذكرْ لي من أين هي، واستحيتُ أني أذكرَ لها ذلك، والتزمتُ الثمنَ للتجار، وتكلفتُ غرامةً خمسةَ آلافِ دِرهم، وجئتُ البيتَ وأنا سكرانُ من محبتِها، فقدمُوا العشاءَ فأكلتُ لقمةً وتذكرتُ حسنَها وجمالَها فأشغلني عن الأكل، وأردتُ أن أنامَ فلم يجئني نوم، ولم أزل على هذه الحالةِ أسبوعا، وطالبتني التجارُ بأموالِهم فصبَّرتُهم أسبوعا آخر فبعدَ الأسبوع أقبلت وهي راكبةٌ البغلةَ ومعها خادمٌ وعبدان فسلمت علي وقالت:
" يا سيدي أبطأنا عليك بثمنِ القماش، فهاتِ الصيرفي واِقبِضْ الثمن."
فجاءَ الصيرفيُ وأخرجَ له الطواشيُ الثمنَ، فقبَضْتُه، وصرتُ أتحدثُ وإياها إلى أن عمِرَ السوق، وفتحت التجار، فقالت:
"خذ لي كذا وكذا."
فأخذتُ لها من التجارِ ما أرادت وأخذَته ومضت، ولم تخاطبني في ثمن، فلما مضت ندِمتُ على ذلك، وكنتُ أخذتُ الذي طلبته بألفِ دينار[10]، فلما غابت عن عيني قلتُ في نفسي: أي شيءٍ هذه المحبة؟ أعطتني خمسةَ آلافِ درهم وأخذت شيئا بألفِ دينار! فخِفتُ الإفلاسَ وضياعَ مالِ الناس، وقلت: إن التجارَ لم يعرِفوا إلا أنا، فما كانت هذه المرأةُ إلا محتالةً خدعتني بحسنِها وجمالِها، ورأتني صغيرا فضحِكت عليّ، ولم أسألْها عن منزلِها ولم أزل في وِسوْاس، وطالت غيبتُها أكثرَ من شهر، فطالبتني التجار، وشددوا علي، فعرَضتُ عقاري للبَيع، وأشرفتُ على الهلاك، ثم قعَدتُ وأنا متفكرٌ فلم أشعرْ إلا وهي نازلةٌ على بابِ السوق، ودخلت علي. فلما رأيتُها زالت الفكرةُ ونسِيتُ ما كنتُ فيه وأقبلَت تحدثُني بحديثِها الحَسَن، ثم قالت:
"هاتِ الميزانَ وزنْ مالَك."
فأعطتني ثمنَ ما أخذَته بزيادة، ثم انبسطت معي في الكلام، فكدتُ أن أموتَ فرحا وسرورا، حتى قالت لي:
"هل أنتَ لك زوجة؟"
فقلت:
"لا. إني لا أعرفُ امرأًة."
ثم بكيتُ. فقالت لي:
"مالك تبكي؟"
فقلت:
"من شيءٍ خطرَ ببالي، ثم إني أخذتُ بعضَ دنانيرَ وأعطيتُها للخادمِ وسألتُه أن يتوسطَ في الأمرِ فضَحِك وقال:
"هي عاشقةٌ لك أكثرَ منك، ومالها بالقماشِ حاجةٌ، وإنما هو لأجلِ محبتِها لك فخاطِبَها بما تريد، فإنها لا تخالفُك فيما تقول."
فرأتني وأنا أعطي الخادمَ الدنانير، فرجَعت وجلسَت ثم قلتُ لها:
"تصدقي على مملوكِك واسمحي له فيما يقول."
ثم حدثتُها بما في خاطري فأعجبَها ذلك، وأجابتني وقالت:
"هذا الخادمُ يأتي برسالتي، واِعمَلْ أنتَ بما يقولُه لك الخادم."
ثم قامت ومضت وقمتُ سلمتُ التجارَ أموالَهم وحَصَلَ لهم الربح، إلا أنا فإنها حين ذهبت حَصَلَ لي الندمُ من انقطاعِ خبرِها عني، ولم أنم طولَ ليلي، فما كان إلا أيامٌ قلائلُ وجاءني خادمُها، فأكرمتُه وسألتُه عنها، فقالَ إنها مريضة، فقلت للخادم: اِشرحْ لي أمرَها، قال:
"إن هذه الصبيةَ ربتها السيدةُ زبيدة زوجةُ هرون الرشيد، وهي من جواريها، وقد اشتهت على سيدتِها الخروجَ والدخول فأذِنت لها في ذلك، فصارت تخرجُ وتدخلُ حتى صارت قَهرمانة[11]، ثم إنها حدثت بك سيدتَها، وسألتها أن تزوجَها بك، فقالت سيدتُها:
"لا أفعلُ حتى أنظرَ هذا الشاب، فإن كان يشبهُكِ زوجتُكِ به. ونحن نريدُ في هذه الساعةِ أن ندخلَ بكَ الدار، فإن دخلتَ الدار، ولم يشعرْ بك أحد وصلتَ إلى تزويجِك إياها وإن انكشفَ أمرُك ضُرِبَت رقَبَتُك. فماذا تقول؟"
قلت:
"نعم، أروح معك وأصبِرُ على الأمرِ الذي حدثتني به."
فقالَ له الخادم:
"إذا كانت تلك الليلةُ فامضِ إلى المسجدِ الذي بنته السيدةُ زبيدة على الدجلة، فصلِ فيه وبِت هناك."
فقلت:
"حبا وكرامة."
فلما جاءَ وقتُ العشاء مضَيتُ إلى المسجدِ وصلَيتُ فيه وبِتُ هناك، فلما كان وقتُ السَّحَر[12] رأيتُ الخادمَين قد أقبلا في زورقٍ ومعهما صناديقُ فارغة، فأدخلُوها في المسجدِ وانصرفوا وتأخرَ واحدٌ منهما فتأملتُه وإذا هو الذي كان واسطةً بيني وبينها فبعدَ ساعةٍ صعِدَت إلينا الجاريةُ صاحبَتي، فلما أقبَلَت قمتُ إليها وعانقتها فقبلتني وبكت، وتحدثنا ساعة، فأخذتني ووضعتني في صُندوقٍ وأغلقته عليّ، ولم أشعرْ إلا وأنا في دارِ الخليفة، وجاؤوا[13] إليّ بشيءٍ كثيرٍ من الأمتعة، بحيثُ يساوي خمسينَ ألفَ درهمٍ، ثم رأيتُ عِشرينَ جاريةً أخرى، وهم نُهُدٌ[14] أبكَارٌ[15] وبينهن السِتُ[16] زبيدة، وهي لم تقدِرْ على المشي مما عليها من الحُلْى والحُلّل، فلما أقبلَت تفرقَت الجواري من حَوالَيْها، فأتيتُ إليها وقبَلتُ الأرضَ بين يديها، فأشارت لي بالجلوس فجلستُ بين يديها، ثم شَرَعَت تسألُني عن حالي وعن نسبي، فأجبتها عن كلِ ما سألتني عنه، ففرِحَت وقالت:
"واللهِ ما خابت تربيتُنا في هذه الجارية."
ثم قالت لي:
"اِعلَمْ أن هذه الجاريةَ عِندنا بمنزلةِ وَلَدِ الصُّلْب، وهي وديعةُ اللهِ عِندَك."
فقبلتُ الأرضَ قدامَها ورضِيتُ بزواجي إياها، ثم أمرتني أن أقيمَ عِندَهم عشرةَ أيامٍ، فأقمتُ عِندَهم هذه المدةَ وأنا لا أدري من هي الجارية، إلا أن بعضَ الوصائفِ تأتيني بالغداءِ والعشاءِ لأجلِ الخدمة، وبعدَ هذه المدةِ استأذَنَت السيدةُ زبيدة زوجَها أميرَ المؤمنين في زواجِ جاريتِها، فأذِنَ لها وأمرَ لها بعشرةِ آلافِ دينار، فأرسلَت السيدةُ زبيدة إلى القاضي والشهود وكتبوا كتابي عليها، وبعد ذلك عمِلوا الحلوياتِ[17] والأطعمةَ الفاخرة، وفرقوا على سائرِ البيوت ومكثوا على هذه الحالِ عشرةَ أيامٍ أُخَر، وبعدَ العِشرينَ يوما أَدخلوا الجاريةَ الحمامَ لأجلِ الدخولِ بها، ثم إنهم قدموا سفرةً فيها طعامٌ ومن جملته خافقيةُ زر باجة محشيةٌ بالسكر، وعليها ماءُ ورد مُمَّسك وفيها أصنافُ الدجاجِ المُحمر، وغيرُه من سائرِ الألوان مما يَدهَشُ العقول، فواللهِ حين حَضَرت المائدةُ ما أمهلتُ نفسي حتى نزَلتُ على الزِر باجة وأكلتُ منها بحسبِ الكفاية، ومسحتُ يدي ونسيتُ أن أغسِلَها، ومكَثتُ جالسا إلى أن دخلَ الظلامُ وأوقِدَت الشموعُ وأقبلَت المغنياتُ بالدفوف، ولم يزالوا يُجَلُّون[18] العروسةَ وينَّقِطون[19] بالذهب حتى طافت القصر كلَه، وبعد ذلك أقبلوا بها عليّ ونزعوا ما عليها من الملبوس، فلما خلوتُ بها في الفراشِ وعانقتها وأنا لم أصدقْ بوصلِها، شمّت في يدِي رائحة الزرباجة فلما شمت الرائحة صرخت صرخة، فنزَلَ لها الجواري من كلِ جانب، فارتجفتُ ولم أعلمْ الخبر، فقالت الجواري:
"ما لكِ يا أختَنا؟"
فقالت لهم:
"أَخرِجُوا عني هذا المجنون، فأنا أحسُبُ أنه عاقل."
فقلت لها:
"وما الذي ظهرَ لكِ من جنوني."
فقالت:
"يا مجنون، لأي شيءٍ أكلتَ من الزرباجة ولم تغسِلْ يدَك، فواللهِ لا أقبلُكَ على عدمِ عقلِكَ وسوءِ فعلك."
ثم تناولَت من جانِبها سَوطا ونزلت به على ظهري، ثم على مقاعدي حتى غِبتُ عن الوجودِ من كثرةِ الضرب، ثم إنها قالت للجواري:
"خذوه. وامضوا به إلى مُتَوَلِّي المدينةَ ليقطعَ يدَه التي أكلَ بها الزِرباجة ولم يغسلْها."
فلما سمِعتُ ذلك قلت:
"لا حولَ ولا قوةَ إلا بالله، أتُقطَعُ يدي من أجلِ أكلِ الزرباجة وعدمِ غسلي إياها؟!"
فدخلَت عليها الجواري وقلن لها:
"يا أختنا لا تؤاخذيه بفعلِه هذه المرة."
فقالت:
"واللهِ لابد أن أقطعَ شيئا من أطرافِه."
ثم راحت وغابت عني عشرةَ أيامٍ ولم أرْها، وبعدَ العشرةِ أيامٍ أقبلتّ علي وقالت لي:
"يا أسودَ الوجه، أنا لا أصلحُ لك، فكيف تأكلُ الزرباجة ولم تغسلْ يدَك."
ثم صاحت على الجواري فكتفوني وأخذت موسًى ماضيا، وقطعت إبهامَي يدي وإبهامَي رجلي، كما ترَون يا جماعة. فغُشِي عليّ. ثم ذَرَّت عليّ بالذَّرور فانقطعَ الدم، وقلتُ في نفسي: لا آكلُ الزِرباجة ما بقِيتُ حتى أغسِلَ يدي أربعين مرة بالأشنان وأربعين مرة بالسعد وأربعين مرةً بالصابون، فأخذَت عليّ ميثاقا اني لا آكل الزرباجة حتى أغسلَ يدي كما ذكرتُ لكم، فلما جئتُم بهذه الزِرباجةِ تغيرَ لوني وقلتُ في نفسي هذه سببُ قطعِ إبهامَي يدَيّ ورجلَيّ، فلما غَصَبتُم عليّ، قلتُ: لابدَ أن أوفيَ بما حَلَفتُ.
فقلتُ له والجماعةُ حاضرون:
"ما حَصَلَ لكَ بعدَ ذلك؟"
قال:
"فلما حَلَفتُ لها طابَ قلبُها ونِمتُ وإياها، وأقمنا مدةً على هذا الحال، بعدَ تلك المدةِ قالت:
"إن أهلَ دارِ الخلافةِ لم يعلَموا بما حَصَل بيني وبينك فيها، وما دخلَها أجنبيٌ غيرُك، وما دخلتَ فيها إلا بعنايةِ السيدة زبيدة."
ثم أعطتني خمسين ألف دينار وقالت:
"خذ هذه الدنانيرَ واخرجْ واشْتَرِ لنا بها دارًا فسيحة."
فخرجتُ واشتريتُ دارا مليحةً فسيحة، ونقلتُ جميعَ ما عِندَها من النِّعم، وما ادخَرَته من الأموالِ والقماشِ والتحفِ إلى هذه الدارِ التي اشتريتُها، فهذا سببُ قطعِ إبهامَي."
فأكلنا وانصرفنا، وبعد ذلك جرى لي مع الأحدبِ ما جرى وهذا جميعُ حديثي والسلام."
فقال الملك:
"ما هذا بأعذبِ من حديثِ الأحدب، بل حديثُ الأحدبِ أعذبُ من ذلك، ولابد من صلبِكم جميعا،
[1] كتبت في الأصل "مقرؤن"
[2] الزرباجة: أكلة ذكرت وصفتها في كتاب ابن سيار الوراق في القرن العاشر من العصر الراهن (ميلادي). وهي دجاج مطهي بالبهارات. ويمكن التعرف على مزيد من التفاصيل بشأن مخطوطو الوراق والأكلة وعلاقتها بالعباسيين في هذا الوثائقي
https://www.youtube.com/watch?v=-9Cgrn_ycus
[3] البيت للشاعر محمد بن حمير جمال الدين. (ت 1253 م) شاعر اليمن في عصره، لزم الملك المظفر (صاحب اليمن)، حتى كان شاعره. وله فيه مدائح.
[4] نكِر الشيء: جَهله ونفر منه. {فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لاَ تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ} [قرآن]: جهلهم واستوحش منهم ونفر.
[5] الأَشنان: وَرَقُ شَجَرِ النَّبْقِ يُدَقُّ نَاعِمًا، وَيُجْعَلُ فِي مَاءٍ، ويُخَضُّ حَتَّى تَبْدُوَ رَغْوَتُهُ .
[6] السُّعد: نبات طيب الرائعة.
[7] كتبت في الأصل ليالي
[8] َفَخَّتَت المرأَةُ: مَشَتْ مِشْية الفاختة. الليث: إِذا مشَت المرأَة مُجْنِحةً، قيل: تَفَخَّتَتْ تَفَخُّتاً؛ قال: أَظنُّ ذلك مُشْتَقّاً من مَشْي الفاختة، وجمع الفاخِتةِ فَواخِتُ. قوله مُجْنِحةً إِذا تَوَسَّعَتْ في مَشْيِها، وفرَّجَتْ يَدَيْها من إِبْطَيْها. وربما المقصود هنا بالثوب الفاخت أي الثوب الواسع المجنح.
[9] والزَّوْرَةُ: المرَّة الواحدة من الزيارة .
[10] الدينار والدرهم هي عملات الإمبراطورية الإسلامية. الدينار مثقال من الذهب والدرهم مثقال من الفضة.
[11] قهرمانة: مُدبرَة الْبَيْت ومتولية شؤونه. والقهرمان هو المسيطر والحفيظ على من تحت يده، وهي من أصل فارسي، وذكرت في لسان العرب بالمعنى الأخير.
[12] السَّحَرُ: قُبَيْلَ الصُّبْحِ.
[13] في الأصل كتبت "جاؤا"
[14] جمع ناهد: وهي المرأة البارزة الصدر، ولم أجد هذا الجمع في المعاجم العربية، فقد جمعت الكلمة على نواهد وناهدات. والأولى أكثر شيوعا.
[15] أبكار: جمع بِكر، وهي العذراء التي لم تجتمع برجل في علاقة جنسية. ومن الواضح أن المعنى هنا هو صغر السن.
[16] سِت: ذكرها القاموس المحيط كلمة ملحونة صوابها العربي "سيدتي". وكلمة ست مازالت تستخدم في مصر وهي إحدى كلمات اللغة المصرية القديمة بمعنى امرأة.
[17] لم أجد هذه الصيغة في القواميس العربية المتاحة لي، فكلمة "حُلْو" و"حلاوة" لم أجد لها جمعا، وتبدو لي أنها تستخدم للدلالة على الجمع والمفرد.
[18] الجِلْيُ: التنظيف من السَّطْحِ لا غَيْرُ.
وجَلَيْتُ الفِضَّةَ: جَلَوْتَها.
واللهُ يُجَلِّي الساعَةَ: يُظْهِرُها. وهذا هو المعنى هنا وأعتقد أنه بمعنى كلمة "يزَّف" وهو طقس في الزفاف مازال مستمرا حتى الآن في الأعراس المصرية والعربية حيث يطوف العروسان وحولهما عازفو الدفوف لاستعراضهما على الحضور.
[19] نقَّط العروسَ: قدّم إليها مالًا أو هديَّةً عند زفافها. ويبدو لي أنه استخدام حديث، وقد أدرجه الوسيط .